| عثمان بن عفان | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 9:57 am | |
| عثمان بن عفان عثمان بن عفان ذو النورين ( 3 من 15 ) السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي الكتاب
الفصل الأول: حياة عثمان
[للاستزادة راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 589، ابن الأثير ج 2/ص 475، الأخبار الطوال ص 139، الاستيعاب 1778، أسد الغابة ج 3/ص 584، الإنباء في تاريخ الخلفاء ص 48، الإصابة ترجمة ج 4/ص 456، البدء والتاريخ ج 6/ص 192، تاريخ الإسلام ج 3/ص 177، تاريخ الخلفاء لابن زيد ص 24، تاريخ خليفة بن خياط ص 131، تاريخ مختصر الدول ص 103، تاريخ اليعقوبي ص 162، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 118، تذكرة الحفاظ ج 1/ص 8، تقريب التهذيب ج 2/ص 12، التنبيه والإشراف ص 291، تهذيب الأسماء واللغات ج 1/ص 321، تهذيب التهذيب ج 7/ص 142، الجرح والتعديل ص 156، طبقات الفقهاء ص 40، طبقات ابن سعد ج 3/ص 53، العقد الفريد ج 4/ص 310، الفخري ص 97، الكنى والأسماء ج 1/ص 8، مآثر الأناقة ج 1/ص 93، المحبّر ص 14، المِحَن ص 63، مروج الذهب ج 1/ص 543، المعارف ص 191، المغني ص 282، نهاية الأرب ج 19/ص 402، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، حسن إبراهيم حسن ج 1/ص 252]. بن عفَّان ـ رضي اللَّه عنه ـ
(47 ق. هـ 35 هـ / 576 م ـ 656 م) [ص 15].
هو عثمان بن [هو عثمان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب. يجتمع نسبه مع الرسول ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في الجد الخامس من جهة أبيه]. عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فهو قرشي أموي يجتمع هو والنبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في عبد مناف، وهو ثالث الخلفاء الراشدين.
ولد بالطائف بعد الفيل بست سنين على الصحيح (سنة 576 م).
وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وأم أروى البيضاء بنت عبد المطلب عمة الرسول ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ [المسعودي، مروج الذهب ج 2/ص 340، الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74، تاريخ الإسلام ج 1/ص 252].
كنيته
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 74، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 119]: [ص 17].
يكنى بأبي عبد اللَّه وأبي عمرو، كني أولًا بابنه عبد اللَّه ابن زوجته رقية بنت النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. توفي عبد اللَّه سنة أربع من الهجرة بالغًا من العمر ست سنين.
ويقال لعثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ: (ذو النورين) لأنه تزوج رقية، وأم كلثوم، ابنتيَّ النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. ولا يعرف أحد تزوج بنتيَّ نبي غيره [السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 119].
أولاده وأزواجه [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 75، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 119].
ـ1ـ عبد اللَّه بن رقية.
ـ2ـ عبد اللَّه الأصغر، وأمه فاختة بنت غزوان بن جابر.
ـ3ـ عمرو، وأمه أم عمرو بنت جُنْدب.
ـ4ـ خالد، وأمه أم عمرو بنت جُنْدب.
ـ5ـ أُبان، وأمه أم عمرو بنت جُنْدب.
ـ6ـ عمر، وأمه أم عمرو بنت جُنْدب.
ـ7ـ مريم وأمها أم عمرو بنت جُنْدَب.
ـ8ـ الوليد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس.
ـ9ـ سعيد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس.
ـ10ـ أم سعيد وأمها فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس.
ـ11ـ عبد الملك وأمه أم البنين بنت عُيينة بن حصن بن حذيفة.
ـ12ـ عائشة، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة.
ـ13ـ أم أبان، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة.
ـ14ـ أم عمرو وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة.
ـ15ـ مريم، وأمها نائلة بنت الفُرَافِصَة ابن الأحوص.
ـ16ـ أم البنين وأمها أم ولد وهي التي كانت عند عبد اللَّه بن يزيد بن أبي سفيان [ص 18].
فأولاده ستة عشر: تسعة ذكور، وسبع إناث، وزوجاته تسع، ولم تذكر هنا أم كلثوم لأنها لم تعقب، وقتل عثمان وعنده رملة، ونائلة، وأم البنين، وفاختة، غير أنه طلق أم البنين وهو محصور.
زوجته رقية
رقية بنت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأمها خديجة، وكان رسول اللَّه قد زوَّجها من عتبة بن أبي لهب، وزوَّج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت: {تبت} [المسد: 1]. قال لهما أبو لهب وأمهما ـ أم جميل بنت حرب بن أمية ـ {حمالة الحطب} [المسد: 4]: فارقا ابنتَي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من اللَّه تعالى لهما، وهوانًا لابني أبي لهب، فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة، وهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له هناك ولدًا فسماه: "عبد اللَّه"، وكان عثمان يُكنى به[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74]، فبلغ الغلام ست سنين، فنقر عينه ديك، فورم وجهه، ومرض، ومات. وكان موته سنة أربع، وصلى عليه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ونزل أبوه عثمان حفرته. ورقية أكبر من أم كلثوم. ولما سار رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ إلى بدر كانت ابنته رقية مريضة، فتخلَّف عليها عثمان بأمر رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فتوفيت يوم وصول زيد بن حارثة [هو زيد بن حارثة بن شراحيل، الكلبي، أبو أسامة، اختطف في الجاهلية صغيرًا، واشترته خديجة بنت خويلد فوهبته إلى النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قبل الإسلام ـ وأعتقه وزوَّجه بنت عمته، واستمر الناس يسمونه زيد بن محمد حتى نزلت آية {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب:5]، وهو من أقدم الصحابة إسلامًا، كان النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لا يبعثه في سرية إلا أمَّره عليها، وكان يحبِّه ويقدِّمه، وجعل له الإمارة في غزوة مؤتة، فاستشهد فيها سنة 8 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 563، صفة الصفوة ج 1/ص 147، خزانة الأدب ج 1/ص 363، الروض الأنف ج 1/ص 164، تهذيب التهذيب ج 3/ص 401، تقريب التهذيب ج 1/ص 273، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 350، الكاشف ج 1/ص 337، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 8، الجرح والتعديل ج 3/ص 559، أسد الغابة ج 3/ص 281، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 198.]. مبشرًا بظفر رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بالمشركين [تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، حسن إبراهيم حسن، ج 1/ص 253]. وكانت قد أصابتها الحصبة فماتت بها.
زوجته أم كلثوم
بنت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأمها خديجة، وهي أصغر من أختها رقية، زوَّجها النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ من عثمان بعد وفاة رقية، وكان نكاحه إياها في ربيع الأول من سنة ثلاث، وبنى بها في جمادى الآخرة من السنة، ولم تلد منه ولدًا، وتوفيت سنة تسع وصلى عليها رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ونزل في قبرها عليّ، والفضل[هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو الفضل، القرشي، المكي، من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام، جدّ الخلفاء العباسيين، قال رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في وصفه: (أجود قريش كفًا وأوصلها، هذا بقية آبائي)، وهو عمه، كان محسنًا لقومه، سديد الرأي، واسع العقل، مولعًا بإعتاق العبيد، كانت له سقاية الحج وعمارة البيت الحرام أي لا يدع أحدًا يسبّ أحدًا في المسجد ولا يقول فيه هجرًا. أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه، أقام بمكة يكتب إلى رسول اللَّه أخبار المشركين. ثم هاجر إلى المدينة وشهد وقعة حنين فكان ممن ثبت حين انهزم الناس، شهد فتح مكة، وعمي في آخر عمره، وكان إذا مر بعمر في أيام خلافته ترجَّل عمر إجلالًا له، وكذلك عثمان، عمَّر طويلًا، ولد سنة 51 ق. هـ. وتوفي سنة 32 هـ. أحصي وُلده في سنة 200 هـ، فبلغوا 33000. للاستزادة راجع: أسد الغابة ج 3/ص 164، تهذيب الكمال ج 2/ص 658، تهذيب التهذيب ج 5/ص 122، تقريب التهذيب ج 1/ص 397، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 35، الكاشف ج 2/ص 66، تاريخ البخاري الكبير ج 7 ص 2، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 15، الجرح والتعديل ج 6/ص 210، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 295، الإصابة ج 3/ص 631، الاستيعاب ج 2/ص 810، الوافي بالوفيات ج 16/ص 629، سير الأعلام ج 2/ص 78، البداية والنهاية ج 7/ص 161، الثقات ج 3/ص 288، صفة الصفوة ج 1/ص 203، ذيل المذيّل 10، تاريخ الخميس ج 1/ص 165، المرزباني 262، المحبَّر 63، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 85].، وأسامة بن زيد [هو أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، من كنانة عوف، أبو محمد، صحابي جليل، نشأ على الإسلام وكان أبوه من أوَّل الناس إسلامًا، استعمله رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ على جيش فيه أبو بكر وعمر. للاستزادة راجع: وفيات الأعيان ج 1/ص 300، تهذيب التهذيب ج 1/ص 250، صفة الصفوة ج 1/ص 110، طبقات ابن سعد ج 4/ص 310، تهذيب ابن عساكر ج 2/ص 225، الإصابة ج 1/ص 310، تهذيب الكمال ج 1/ص 118، تقريب التهذيب ج 1/11، الكاشف ج 1/ص 285، تاريخ ابن معين ج 3/ص 110، تاريخ الصحابة الرواة 110، سير أعلام النبلاء ج 2/ص 310، أسد الغابة ج 1/ص 250، الثقات ج 3/ص 333، الاستيعاب ج 1 ص 405]. وقيل: إن أبا طلحة الأنصاري استأذن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في أن ينزل معهم، فأذن له. وقال: (لو أن لنا ثالثة لزوجنا عثمان بها).
وروى سعيد بن [ص 20] المسيب أن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ رأى عثمان بعد وفاة رقية مهمومًا لهفانا. فقال له: (ما لي أراك مهمومًا)؟ فقال: يا رسول اللَّه وهل دخل على أحد ما دخل عليَّ ماتت ابنة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ التي كانت عندي وانقطع ظهري، وانقطع الصهر بيني وبينك. فبينما هو يحاوره إذ قال النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (هذا جبريل عليه السلام يأمرني عن اللَّه عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها، وعلى مثل عشرتها) [ورد في الجامع الكبير المخطوط ج 2، (36200)]. فزوجه إياها.
صفته
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 691، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 120].
كان عثمان جميلًا وكان ربعة ـ لا بالقصير ولا بالطويل ـ، حسن الوجه، رقيق البشرة كبير اللحية، أسمر اللون، كثير الشعر، ضخم الكراديس [الكراديس: جمع كردوسة، كل عظمين التقيا في مفصل، وقيل رؤوس العظام]، بعيد ما بين المنكبين، له جُمَّة [جُمَّة: مجتمع شعر الرأس، إذا تدلَّى من الرأس إلى شحمة الأذن، القاموس المحيط، مادة: جمَّ] أسفل من أذنيه، جذل الساقين، طويل الذراعين، شعره قد كسا ذراعيه. أقنى (بيِّن القنا)، بوجهه نكتات جدري، وكان يصفر لحيته ويشد أسنانه بالذهب [ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 192].
وكان ـ رضي اللَّه عنه ـ أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمور لعلمه، وتجاربه، وحسن مجالسته، وكان شديد الحياء، ومن كبار التجار.
أخبر سعيد بن العاص أن عائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ وعثمان حدثاه: أن أبا بكر استأذن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة فأذن له وهو كذلك، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف. ثم استأذن عمر فأذن له، وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف. ثم استأذن عليه عثمان فجلس وقال لعائشة: (اجمعي عليك ثيابك) فقضى إليه حاجته، ثم انصرف. قالت عائشة: يا رسول اللَّه لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان! قال رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال لا يُبلغ إليّ حاجته) [رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: 27، وأحمد في (م 6/ص 155).]. [ص 21] وقال الليث: قال جماعة من الناس: (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة) [رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: 26، وأحمد في (م 6/ص 155).].
لا يوقظ نائمًا من أهله إلا أن يجده يقظان فيدعوه فيناوله وضوءه، وكان يصوم الدهر [الإصابة ج 4/ص 223]، ويلي وضوء الليل بنفسه. فقيل له: لو أمرت بعض الخدم فكفوك، فقال: لا، الليل لهم يستريحون فيه. وكان ليَّن العريكة، كثير الإحسان والحلم. قال رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (أصدق أمتي حياءً عثمان) [رواه ابن ماجه في المقدمة، باب: 11، وأحمد في (م 3/ص 184).]. وهو أحد الستة الذين توفي رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو عنهم راضٍ، وقال عن نفسه قبل قتله: "واللَّه ما زنيت في جاهلية وإسلام قط".
لباسه
رئي وهو على بغلة عليه ثوبان أصفران له غديرتان، ورئي وهو يبني الزوراء [الزوراء: دار عثمان بالمدينة]. على بغلة شهباء مصفِّرًا لحيته، وخطب وعليه خميصة [الخميصة: كساء أسود له علمان، فإن لم يكن معلمًا فليس بخميصة]. سوداء وهو مخضوب بحناء، ولبس ملاءة صفراء وثوبين ممصرين، وبردًا يمانيًا ثمنه مائة درهم، وتختم في اليسار، وكان ينام في المسجد متوسدًا رداءه.
إسلامه
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74].
أسلم عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ في أول الإسلام قبل دخول رسول اللَّه دار الأرقم، وكانت سنِّه قد تجاوزت الثلاثين، دعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، ولما عرض أبو بكر عليه الإسلام قال له: ويحك يا عثمان واللَّه إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، هذه الأوثان التي يعبدها قومك، أليست حجارة صماء لا تسمع، ولا تبصر، ولا تضر، ولا تنفع؟ فقال: بلى، واللَّه إنها كذلك، قال أبو بكر: هذا محمد بن عبد اللَّه قد بعثه اللَّه برسالته إلى جميع خلقه، فهل لك أن تأتيه وتسمع منه؟ فقال: نعم.
وفي الحال مرَّ رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فقال: (يا عثمان أجب اللَّه إلى جنته فإني رسول اللَّه إليك وإلى جميع خلقه). قال : فواللَّه ما ملكت حين سمعت قوله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمد رسول عبده ورسوله، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية. وكان يقال: أحسن زوجين رآهما إنسان، رقية وعثمان. كان زواج عثمان لرقية بعد النبوة لا قبلها، كما ذكر السيوطي [السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 118]. ذلك خطأ.
وفي طبقات ابن سعد: قال عثمان : يا رسول اللَّه قدمت حديثًا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام إذا منادٍ ينادينا: أيها النيام هبّوا فإن أحمد قد خرج بمكة فقدمنا فسمعنا بك.
وفي إسلام عثمان تقول خالته سعدى:
هدى اللَّه عثمان الصفيَّ بقوله *** فأرشده واللَّه يهدي إلى الحق
فبايع بالرأي السديد محمدًا *** وكان ابن أروى لا يصد عن الحق
وأنكحه المبعوث إحدى بناته *** فكان كبدر مازج الشمس في الأفق
فداؤك يا ابن الهاشميين مهجتي*** فأنت أمين اللَّه أرسلت في الخلق
لما أسلم عثمان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث! واللَّه لا أخليك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين. فقال: واللَّه لا أدعه أبدًا. فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه [السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 119، ابن سعد، الطبقات الكبرى ج 3/ص 55].
وفي غداة اليوم الذي أسلم فيه عثمان جاء أبو بكر بعثمان بن مظعون [هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة الجمحي، أبو السائب، صحابي، كان من حكماء العرب في الجاهلية، يحرم الخمر، أسلم بعد 13 رجلًا، وهاجر إلى أرض الحبشة مرتين، أراد التبتل والسياحة في الأرض زهدًا بالحياة، فمنعه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فاتخذ بيتًا يتعبد فيه، فأتاه النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فأخذ بعضادتي البيت، وقال: (يا عثمان، إن اللَّه لم يبعثني بالرهبانية ـ مرتين أو ثلاثًا ـ وإن خير الدين عند اللَّه الحنفية السمحة)، شهد بدرًا، ولما مات جاءه النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فقتله ميتًا حتى رُؤيت دموعه تسيل على خد عثمان، وهو أوَّل من مات بالمدينة من المهاجرين وأوَّل من دفن بالبقيع منهم سنة 2 هـ. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 3/ص 286، الإصابة ترجمة 5455، صفة الصفوة ج 1/ص 178، حلية الأولياء ج 1/ص 102، تاريخ الخميس ج 1/ص 411، والمرزباني 254]. وأبي عبيدة بن [ص 23] الجراح [هو عامر بن عبد اللَّه بن الجرَّاح بن هلال بن أهيب، ويقال: وُهَيْب بن ضبّة بن الحارث بن فهر، أبو عبيد بن الجرَّاح، القرشي، الفهري، الأمير القائد، فاتح الديار الشامية، صحابي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال ابن عساكر: داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة. كان لقبه: أمين الأمة، ولد بمكة، كان من السابقين إلى الإسلام شهد المشاهد كلها، ولاه عمر قيادة الجيش الزاحف إلى الشام بعد خالد بن الوليد، توفي بطاعون عمواس سنة 18 هـ ودفن في غور بيسان، وفي الحديث: (الكل نبي أمين وأميني أبو عبيدة بن الجراح)، رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (7: 163).]، وعبد الرحمن بن عوف[هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤي بن غالب، صحابي وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو أحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة فيهم، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، قيل: هو الثامن. المتوفى سنة 32 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 2/ص 809، تهذيب التهذيب ج 6/ص 244، تقريب التهذيب ج 1/ص 494، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 147، الكاشف ج 2/ص 179، تاريخ البخاري الكبير ج 5/ص 239، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 50، الجرح والتعديل ج 5/ص 247، أسد الغابة ج 3/ص 480، الإصابة ج 4/ص 349، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 353، الاستيعاب ج 2/ص 844، سير أعلام النبلاء ج 1/ص 68، البداية والنهاية ج 7/ص 163، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 51، الأعلام ج 3/ص 321، صفة الصفوة ج 1/ص 135، حلية الأولياء ج 1/ص 98، تاريخ الخميس ج 2/ص 257، البدء والتاريخ ج 5/ص 86، الرياض النضرة ج 2/ص 281، الجمع بين رجال الصحيحين، الطبقات الكبرى ج 2/ص 110.] ، وأبي مسلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا وكانوا مع من اجتمع مع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ثمانية وثلاثين رجلًا.
وأسلمت أخت عثمان آمنة بنت عفان، وأسلم أخوته لأمه الوليد وخالد وعمارة، أسلموا يوم الفتح، وأم كلثوم، وبنو عقبة بن أبي معيط ابن عمرو بن أمية أمهم كلهم أروى، ذكر ذلك الدارقطني في كتاب الأخوة، وذكر أن أم كلثوم من المهاجرات الأُوَل، يقال: إنها أول قرشية بايعت النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأنكحها زيد بن حارثة، ثم خلقه عليها عبد الرحمن بن عوف ثم تزوجها الزبير بن العوام [هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، الأسدي، القرشي، أبو عبد اللَّه، الصحابي الشجاع، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من سَلَّ سيفه في الإسلام، وهو ابن عمة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، أسلم وعمره 12 سنة، شهد بدرًا، وأحد، وغيرهما، كان على بعض الكراديس في اليرموك، شهد الجابية مع عمر بن الخطاب، قالوا: كان في صدر ابن الزبير أمثال العيون في الطعن والرمي، وجعله عمر في من يصلح للخلافة بعده، وكان موسرًا، كثير المتاجر، خلف أملاكًا بيعت بنحو أربعين مليون درهم، كان طويلًا جدًا إذا تخط رجلاه الأرض، قتله ابن جرموز غيلة يوم الجمل، بوادي السباع، كان خفيف اللحية أسمر اللون، كثير الشعر، للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 3/ص 318، تقريب التهذيب ج 1/ص 259، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 334، الكاشف ج 1/ص 320، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 320، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 409، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 36، أسد الغابة ج 2/ص 249، صفة الصفوة ج 1/ص 132، حلية الأولياء ج 1/ص 89.].
هجرته
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 120]: [ص 24].
هاجر عثمان إلى أرض الحبشة فارًا بدينه مع زوجته رقية بنت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فكان أول مهاجر إليها، ثم تابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة. عن أنس قال: أول من هاجر إلى الحبشة عثمان، وخرجت معه ابنة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 1/ص 547، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 120]، فأبطأ على رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ خبرهما، فجعل يتوكف الخبر فقدمت امرأة من قريش من أرض الحبشة فسألها، فقالت: رأيتها، فقال: (على أيّ حال رأيتها؟) قالت: رأيتها وقد حملها على حمار من هذه الدواب وهو يسوقها، فقال النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (صحبهما اللَّه، إن كان عثمان لأول من هاجر إلى اللَّه عز وجل بعد لوط) [رواه ابن أبي عاصم في السنة (2: 596].
تبشيره بالجنة
[تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، حسن إبراهيم حسن، ج 1/ص 253].
كان عثمان ـ رضي اللَّه ـ عنه أحد العشرة الذين شهد لهم رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بالجنة.
عن أبي موسى الأشعري [هو عبد اللَّه بن قيس بن سليم بن حضّار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهز بن الأشعر، أبو موسى الأشعري، من بني الأشعر من قحطان، صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين، أحد الحكمين اللذين رضي بهما علي ومعاوية بعد حرب صفِّين، ولد في زبيد باليمن سنة 21 ق. هـ، قدم مكة عند ظهور الإسلام، فأسلم، وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم استعمله رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ على زبيد وعدن، ولاه عمر بن الخطاب البصرة سنة 17 هـ، افتتح أصبهان والأهواز، ولما ولي عثمان أقرَّه عليها، ثم عزله، فانتقل إلى الكوفة، فطلب أهلها من عثمان توليته عليهم، فولاه فأقام بها إلى أن قتل عثمان، فأقرَّه عليّ، ثم كانت وقعة الجمل وأرسل علي يدعو أهل الكوفة لينصروه، فأمرهم أبو موسى بالقعود في الفتنة، فعزله علي فأقام إلى أن كان التحكيم وخدعه عمرو بن العاص، فارتد أبو موسى إلى الكوفة، فتوفي فيها سنة 44 هـ، كان أحسن الصحابة صوتًا في التلاوة، خفيف الجسم، قصيرًا، وفي الحديث: (سيد الفوارس أبو موسى). للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 2/ص 724، تهذيب التهذيب ج 5/ص 362، تقريب التهذيب ج 1/ص 441، خلاصة تهذيب التهذيب ج 2/ص 89، الكاشف ج 2/ص 119، تاريخ البخاري الكبير ج 5/ص 22، الجرح والتعديل ج 5/ص 138، الثقات ج 3/ص 221، التجريد ج 1/ص 330، الإصابة ج 4/ص 211، الاستيعاب ج 3/ص 679، الوافي بالوفيات ج 17/ص 407، سير الأعلام ج 2/ص 380، صفة الصفوة ج 1/ص 335، طبقات ابن سعد ج 4/ص 79، غاية النهاية ج 1/ص 442، حلية الأولياء ج 1/ص 256.] ، قال: كنت مع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في حديقة بني فلان والباب علينا [ص 25] مغلق إذ استفتح رجل فقال النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (يا عبد اللَّه بن قيس، قم فافتح له الباب وبشَّره بالجنة) فقمت، ففتحت الباب فإذا أنا بأبي بكر الصدِّيق فأخبرته بما قال رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فحمد اللَّه ودخل وقعد، ثم أغلقت الباب فجعل النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ينكت بعود في الأرض فاستفتح آخر فقال: يا عبد اللَّه بن قيس قم فافتح له الباب وبشَّره بالجنة، فقمت، ففتحت، فإذا أنا بعمر بن الخطاب فأخبرته بما قال النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فحمد اللَّه ودخل، فسلم وقعد، وأغلقت الباب فجعل النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ينكت بذلك العود في الأرض إذ استفتح الثالث الباب فقال النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (يا عبد اللَّه بن قيس، قم فافتح الباب له وبشره بالجنة على بلوى تكون) [رواه ابن أبي عاصم في السنة (2: 546)، والبغوي في شرح السنة (14: 108) ]، فقمت، ففتحت الباب، فإذا أنا بعثمان بن عفان، فأخبرته بما قال النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فقال: (اللَّه المستعان وعليه التكلان)، ثم دخل، فسلم وقعد.
وقال ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، والآخر لو شئت سميته) [رواه أبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، وابن ماجه في المقدمة، باب: فضائل أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأحمد في (م 1/ص 187).
[ثم سمَّى نفسه. وعن سعيد بن زيد أن رجلًا قال له: أحببت عليًا حبًا لم أحبه شيئًا قط. قال: (أحسنت، أحببت رجلًا من أهل الجنة). قال: وأبغضت عثمان بغضًا لم أبغضه شيئًا قط، قال: (أسأت، أبغضت رجلًا من أهل الجنة)، ثم أنشأ يحدث قال: بينما رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ على حراء ومعه أبو بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير قال: (اثْبُتْ حِرَاءُ ما عليك إلا نبيُّ أو صدِّيق أو شهيد) [رواه أبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، والترمذي في كتاب المناقب، باب: 27، وابن ماجه في المقدمة باب: في فضائل أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ.].
وعن أنس قال: صعد النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل فقال: (اثبت أحد فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان) [رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (لو كنت متخذًا خليلًا)، وأبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، وأحمد في (م 5/ص 331).
وعن حسان بن عطية قال: قال رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (غفر اللَّه لك يا عثمان ما قدَّمتَ، وما أخَّرتَ، وما أسررتَ، وما أعلنتَ، وما هو كائن إلى يوم القيامة) [رواه المتقي الهندي في كتاب كنز العمال (32847)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (6: 2253).].
رواه أبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، وابن ماجه في المقدمة، باب: فضائل أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأحمد في (م 1/ص 187).
تخلّفه عن بيعة الرضوان
[تاريخ الإسلام للذهبي ج 1/ص 253].
في الحديبية دعا رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول اللَّه إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلّك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان، فدعا رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحربهم وأنه إنما جاء زائرًا لهذا البيت ومعظَّمًا لحرمته.
فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص [هو أبان بن سعيد بن العاص الأموي، أبو الوليد، صحابي مشهور من ذوي الشرف، كان في عصر النبوة من شديدي الخصومة للإسلام والمسلمين، ثم أسلم سنة 7 هـ، بعثه رسول اللَّه سنة 9 هـ عاملًا على البحرين على البحرين، فخرج بلواء معقود أبيض وراية سوداء، أقام في البحرين إلى أن توفي رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فسافر أبان إلى المدينة ولقيه أبو بكر فلامه على قدومه، فقال: آليت ألا أكون عاملًا لأحد بعد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، أقام إلى أن كانت وقعة أجنادين في خلافة أبي بكر، فحضرها واستشهد بها سنة 13 هـ على الأرجح، وقيل: توفي في خلافة عثمان. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 10، تاريخ الإسلام للذهبي ج 1/ص 378، حسن الصحابة ص 220، تهذيب ابن عساكر ج 2/ص 124.] حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، [ص 27] فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلَّغ رسالة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان [هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ولد سنة 57 ق. هـ، صحابي، من سادات قريش في الجاهلية، وهو والد معاوية رأس الدولة الأموية، كان من رؤساء المشركين في حرب الإسلام عند ظهوره، قاد قريشًا وكنانة يوم أحد، ويوم الخندق لقتال رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأسلم يوم الفتح سنة 8 هـ، وأبلى بعد إسلامه البلاء الحسن، وشهد حنينًا والطائف، ففقئت عينه يوم الطائف، ثم فقئت الأخرى يوم اليرموك، فعمي، وكان من الشجعان الأبطال، ولمَّا توفي رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ كان أبو سفيان عامله على نجران، ثم أتى الشام، وتوفي بالمدينة، وقيل: بالشام سنة 31 هـ. للاستزادة راجع: الأغاني ج 6/ص 89، فتوح البلدان للبلاذري ص 224، نكت الهميان ص 172، المحبّر ص 246، البدء والتاريخ ج 5/ص 107، تهذيب الكمال ج 2/ص 602، تهذيب التهذيب ج 4/ص 411، تقريب التهذيب ج 1/ص 365، تاريخ البخاري الكبير ج 4/ص 301، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 44، الجرح والتعديل ج 4/ص 1869، الوافي بالوفيات ج 16/ص 284، أسد الغابة ج 3/ص 412.]. وعظماء قريش فبلغهم عن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول اللَّه والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل، وقيل: إنه دخل مكة ومعه عشرة من الصحابة بإذن رسول اللَّه ليزوروا أهاليهم ولم يذكروا أسمائهم، وقيل: إن قريشًا احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام، وأشاع الناس أنهم قتلوه هو والعشرة الذين معه. وعلى كل حال أبطأ عثمان ـ رضي اللَّه ـ عنه عن الرجوع فقلق عليه المسلمون، فلما بلغ ذلك الخبر رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قال: (لا نبرح حتى نناجز القوم) [رواه ابن كثير في البداية والنهاية (4: 167].
ولما لم يكن قتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ محققًا، بل كان بالإشاعة بايع النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عنه على تقدير حياته. وفي ذلك إشارة منه إلى أن عثمان لم يُقتل، وإنما بايع القوم أخذًا بثأر عثمان جريًا على ظاهر الإشاعة تثبيتًا وتقوية لأولئك القوم، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى وقال: (اللَّهم هذه عن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك).
قال تعالى يذكر هذه البيعة: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّه عَنِ المُؤْمِنين إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وبعد أن جاء عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ بايع بنفسه.
تخلفه عن غزوة بدر
[السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 118]: [ص 28].
تزوَّج عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ رقية بنت رسول اللَّه بعد النبوة، وتوفيت عنده في أيام غزوة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وكان تأخره عن بدر لتمريضها بإذن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فجاء البشير بنصر المؤمنين يوم دفنوها بالمدينة، وضرب رسول اللَّه لعثمان بسهمه وأجره في بدر فكان كمن شهدها، أي أنه معدود من البدريين. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 9:59 am | |
| عثمان بن عفان عثمان بن عفان ذو النورين ( 4 من 15 ) السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي اختصاصه بكتابة الوحي
عن فاطمة بنت عبد الرحمن عن أمها أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان فإن الناس قد شتموه فقالت: لعن اللَّه من لعنه، فواللَّه لقد كان عند نبي اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وأن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لمسند ظهره إليَّ، وأن جبريل ليوحي إليه القرآن، وأنه ليقول له: اكتب يا عثيم فما كان اللَّه لينزل تلك المنزلة إلا كريمًا على اللَّه ورسوله. أخرجه أحمد وأخرجه الحاكم وقال: (قالت: لعن اللَّه من لعنه، لا أحسبها قالت: إلا ثلاث مرات، لقد رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو مسند فخذه إلى عثمان، وإني لأمسح العرق عن جبين رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأن الوحي لينزل عليه وأنه ليقول: اكتب يا عثيم، فواللَّه ما كان اللَّه لينزل عبدًا من نبيه تلك المنزلة إلا كان عليه كريمًا).
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعثمان بين يديه، وكان كَاتبَ سر رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ.
كراماته
[السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 131].
عن نافع: أن جهجاهًا الغفاري تناول عصا عثمان وكسرها على ركبته فأخذته الأكلة [الأَكَلَة: الحكَّة] في رجله، وعن أبي قلابة، قال: كنت في رفقة بالشام سمعت صوت رجل يقول: يا ويلاه النار، وإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين من الحقوين، أعمى العينين، منكبًا لوجهه، فسألته عن حاله فقال: إني قد كنت ممن دخل على عثمان الدار، فلما دنوت منه صرخت زوجته فلطمتها فقال: (ما لك قطع اللَّه يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار)، فأخذتني رعدة عظيمة وخرجت هاربًا فأصابني ما ترى ولم يبق من دعائه إلا النار، قال: فقلت له بعدًا لك وسحقًا، أخرجهما الملأ في سيرته، وعن مالك أنه قال: كان عثمان مرَّ بحش كوكب [حش كوكب: موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة] فقال: إنه سيدفن هنا رجل صالح فكان أول من دفن فيه.
تجهيزه جيش العسرة
[السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 121]
يقال لغزوة تبوك غزوة العُسرة، مأخوذة من قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117].
ندب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ الناس إلى الخروج وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وأمر الناس بالصدقة، وحثهم على النفقة والحملان، فجاءوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصدِّيق ـ رضي اللَّه عنه ـ، فجاء بماله كله 40.4000 درهم فقال له ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ: (هل أبقيت لأهلك شيئًا؟) قال: أبقيت لهم اللَّه ورسوله. وجاء عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ بنصف ماله فسأله: (هل أبقيت لهم شيئًا؟) [رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (1: 11).]. قال: نعم، نصف مالي. وجاء عبد الرحمن بن عوف ـ رضي اللَّه عنه ـ بمائتي أوقية، وتصدق عاصم بن عَدِيّ [هو عاصم بن عَدِيّ بن الجد البلوي، العجلاني، حليف الأنصار، صحابي، كان سيد بني عجلان، استخلفه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ على العالية من المدينة، عاش عمرًا طويلًا، قيل: 120 سنة، توفي سنة 45 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 4346]. بسبعين وسقًا من تمر، وجهَّز عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ ثلث الجيش جهزهم بتسعمائة وخمسين بعيرًا وبخمسين فرسًا. قال ابن إسحاق: أنفق عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها. وقيل: جاء عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ بألف دينار في كمه حين جهز جيش العُسرة فنثرها في حجر رسول اللَّه فقبلها في حجر وهو يقول: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم). وقال رسول اللَّه: (من جهز جيش العُسرة فله الجنة) [رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان أبي عمر القرشي ـ رضي اللَّه عنه ـ].
حفره بئر رومة
[السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 121]
واشترى بئر رومة من اليهود بعشرين ألف درهم، وسبلها للمسلمين. كان رسول اللَّه قد قال: (من حفر بئر رومة فله الجنة) [تذكرة الحفاظ ج 1/ص 9] [ص 30].
وهذه البئر في عقيق المدينة: روي عن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أنه قال: (نعم القليب قليب المُزَني)، وهي التي اشتراها عثمان بن عفان فتصدق بها. وروي عن موسى بن طلحة عن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أنه قال: (نعم الحفير حفير المزني) ـ يعني رومة ـ، فلما سمع عثمان ذلك ابتاع نصفها بمائة بكرة وتصدق بها على المسلمين فجعل الناس يستقون منها. فلما رأى صاحبها أنه امتنع منه ما كان يصيب منها باعها من عثمان بشيء يسير فتصدق بها كلها.
علمه وقراءته القرآن
[رواه ابن حجر العسقلاني في تغليق التعليق (937) ].
كان عثمان أعلم الصحابة بالمناسك، وبعده ابن عمر.
وكان يحيي الليل، فيختم القرآن في ركعة، قالت امرأة عثمان حين قتل: لقد قتلتموه وإنه ليحيي الليل كله بالقرآن في ركعة، وعن عطاء ابن أبي رباح: (إن عثمان بن عفان صلى بالناس، ثم قام خلف المقام، فجمع كتاب اللَّه في ركعة كانت وتره فسميت بالبتيراء)، وكان يضرب المثل به في التلاوة، أما عمر بن الخطاب فكان يضرب المثل به في قوة الهيبة، وعلي بن أبي طالب في القضاء.
زيادته في المسجد النبوي
[أوردها ابن كثير في عام 26 هـ، والطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 606: (في عام 29 هـ، وسَّع عثمان الحرم وبناه بالفضة ـ الكلس ـ)، وكما ذكر ابن كثير ذلك في البداية والنهاية في الجزء السابع، السيوطي تاريخ الخلفاء ص 124] (سنة 29 هـ/ 650 م):
كان المسجد النبوي على عهد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ مبنيًَّا باللبن وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا وزاد فيه عمرًا وبناه على بنائه في عهد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم غيَّره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والفضة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستة أبواب.
وروى يحيى عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب قال: لما ولي عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين، كلَّمه الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، حتى إنهم ليصلون في الرحاب. فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فأجمعوا على أن يهدمه [ص 31] ويزيد فيه، فصلَّى الظهر بالناس، ثم صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس إني أردت أن أهدم مسجد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وأزيد فيه وأشهد أني سمعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقول: (من بنى مسجدًا بنى اللَّه له بيتًا في الجنة) [رواه مسلم في كتاب المساجد، باب: 24، والترمذي في كتاب الصلاة، باب: 120، والبخاري في كتاب الصلاة، باب: من بنى مسجدًا، وابن ماجه في كتاب الإقامة، باب: من بنى مسجدًا، والدارمي في كتاب الصلاة، باب: من بنى مسجدًا، وأحمد في (م 1/ص 20) ]، وقد كان لي فيه سلف، وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه)، فحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح، فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلًا يصوم الدهر ويصلي الليل، وكان لا يخرج من المسجد، وأمر بالفضة المنخولة تعمل ببطن نخل، وكان أول عمله في شهر ربيع الأول من سنة 29 هـ، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة 30 فكان عمله عشرة أشهر.
قال الحافظ ابن حجر: كان بناء عثمان للمسجد سنة ثلاثين على المشهور. وقيل: في آخر سنة من خلافته.
وروى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان أن يكلم الناس على المنبر ويشاورهم قال له مروان بن الحكم [هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو عبد الملك، المولود سنة 2 هـ، خليفة أموي هو أوَّل من ملك من بني الحكم بن أبي العاص، وإليه ينسب بنو مروان، ودولتهم المروانية، ولد بمكة ونشأ بالطائف، سكن المدينة، فلما كانت أيام عثمان جعله خاصته واتخذه كاتبًا له، ولما قتل عثمان خرج مروان إلى البصرة مع طلحة والزبير وعائشة، يطالبون بدمه، وقاتل مروان في وقعة الجمل قتالًا شديدًا، وانهزم أصحابه فتوارى، شهد صفين مع معاوية، ثم أمنَّه علي فأتاه فبايعه، وانصرف إلى المدينة فأقام إلى أن ولي معاوية الخلافة، فولاه المدينة سنة (42 هـ 49 هـ)، أخرجه منها عبد اللَّه بن الزبير، فسكن الشام، ولما ولي يزيد بن معاوية الخلافة وثب أهل المدينة على من فيها من بني أمية فأجلُّوهم إلى الشام، وكان فيهم مروان، ثم عاد إلى المدينة، وحدثت فتن كان من أنصارها، وانتقل إلى الشام مدة، ثم سكن تدمر، وبعد اعتزال معاوية بن يزيد الخلافة، دعا مروان إلى نفسه، فبايعه أهل الأردن سنة 64 هـ ودخل الشام فأحسن تدبيرها وولى ابنة عبد الملك على مصر بعد أن خرج لها بعد أن تفشَّت فيها البيعة لابن الزبير، ثم عاد إلى دمشق ولم يطل أمره، توفي سنة 65 هـ بالطاعون. وقيل: غطَّته زوجته أم خالد بالوسادة وهو نائم، فقتلته. فدام حكمه تسعة أشهر و 18 يومًا، هو أوَّل من ضرب الدنانير الشامية وكتب عليها {قل هو اللَّه أحد} [الإخلاص: 1].، وكان يلقب: خَيْط باطل، لطول قامته واضطراب خَلْقِه. للاستزادة راجع: أسد الغابة ج 4/ص 348، التهذيب ج 10/ص 91، البدء والتاريخ ج 6/ص 19، تاريخ الخميس ج 2/ص 306.]: فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، [ص 32] فقال: ويحك، إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور، قال مروان: فهل رأيت عمر حين بناه وزاد فيه ذكر لهم؟ قال: اسكت إن عمر اشتد عليهم فخافوه حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنت لهم، حتى أصبحت أخشاهم. قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيُجترأ عليك.
وقد جعل عثمان طول المسجد مائة وستين ذراعًا وعرضه مائة وخمسين.
زيادته في المسجد الحرام
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 595، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ص 481، السيوطي، تاريخ الخلفاء 123، الذهبي، تاريخ الإسلام ج 3/ص 315.] (سنة 26 هـ/ 647 م): كان المسجد الحرام فناء حول الكعبة، وفناء للطائفين، ولم يكن له على عهد النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأبي بكر ـ رضي اللَّه عنه ـ جدار يحيط به، وكانت الدور محدقة به، وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية، فلما استخلف عمر بن الخطاب ـ رضي اللَّه عنه ـ، وكثر الناس وسع المسجد واشترى دورًا وهدمها وزادها فيه واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، وكان عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام.
فلما استخلف عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ ابتاع منازل ووسعه بها أيضًا، وبنى المسجد الحرام، والأروقة، فكان عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ أول من اتخذ للمسجد الأروقة [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 43]. وكانت كسوة الكعبة في الجاهلية الأنطاع [الأنطاع: بُسط من الأديم أي الجلد] والمغافر، فكساها رسول اللَّه الثياب اليمانية، ثم كساها عمر وعثمان القُباطي [القُباطي: ثياب من كتان نُسجت في مصر. [القاموس المحيط، مادة: قبط].
تحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة
في سنة 26 هـ كلَّم أهل مكة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ أن يحول الساحل من الشُعَيْبة، وهي ساحل مكة قديمًا في الجاهلية إلى ساحلها اليوم وهي جُدَّة لقربها من مكة. فخرج عثمان إلى جدة ورأى موضعها، وأمر بتحويل الساحل إليها ودخل البحر [ص 33] واغتسل فيه وقال: إنه مبارك، وقال لمن معه: ادخلوا البحر للاغتسال، ولا يدخل أحد إلا بمئزر، ثم خرج من جدة على طريق عسفان إلى المدينة، وترك الناس ساحل الشعيبة في ذلك الزمان واستمرت جدة بندرًا إلى الآن لمكة المشرفة.
أكل عثمان الليَّن من الطعام
عن عمرو بن أمية الضُمري، قال: إن قريشًا كان من أسن منهم مولعًا بأكل الخزيرة [الخزيرة: اللحم البائت يقطَّع صغارًا في القدر، ثم يطبخ بالماء الكثير، والملح فإذا أميت طبخًا ذُرَّ عليه الدقيق فعصد به. [القاموس المحيط، مادة: خزر]، وإني كنت أتعشى مع عثمان خزيرًا من طِبْخ من أجود ما رأيت قط، فيها بطون الغنم وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى الطعام؟ فقلت: هذا أطيب ما أكلت قط، فقال: يرحم اللَّه ابن الخطاب، أكلتَ معه هذه الخزيرة قط ؟ قلت: نعم، فكادت اللقمة تفرث [تفرث: أي تتفتت. [القاموس المحيط، مادة: فرث] بين يدي حين أهوي بها إلى فمي وليس فيها لحم، وكان أدمها السمن، ولا لبن فيها، فقال عثمان: صدقت، إن عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ أتعب واللَّه من تبع أثره، وأنه كان يطلب بثنيه عن هذه الأمور ظَلفًَا [الظلف: الشدة والغلظ في المعيشة. [القاموس المحيط، مادة: ظلف]. أما واللَّه ما أكله من مال المسلمين ولكني أكله من مالي، أنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالًا وأجدَّهم في التجارة، ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه وقد بلغت سنًَّا، فأحب الطعام إليًّ ألينه ولا أعلم لأحد عليَّ في ذلك تبعة.
وعن عبد اللَّه بن عامر قال: كنت أفطر مع عثمان في شهر رمضان، فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر، قد رأيت على مائدة عثمان الدَّرَمك [الدَّرَمَك: هو دقيق الحواري، وهو تحريف الدرمق] وصغار الضأن كل ليلة وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق منخولًا، ولا أكل من الغنم إلا مسانَّها. فقلت لعثمان في ذلك، فقال: يرحم اللَّه عمر ومن يطيق ما كان عمر يطيق!.
كرمه ـ رضي اللَّه عنه ـ
كان لعثمان على طلحة خمسون ألفًا، فخرج عثمان يومًا إلى المسجد فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه. قال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك.
بعض أحكامه
استخف رجل بالعباس بن عبد المطلب، فضربه عثمان، فاستحسن منه ذلك وقال: أيفخم رسول اللَّه عمه وأرخص في الاستخفاف به، لقد خالف رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ من فعل ذلك ورضي به.
وحدث بين الناس النشو [النشو: السُكر]، فأرسل عثمان يطوف عليهم فمنعهم من ذلك، ثم اشتد ذلك فأفشى الحدود ونبّأ ذلك عثمان، وشكاه إلى الناس، فاجتمعوا على أن يجلدوا في التنفيذ فأخذ نفر منهم وجلدوا.
وبلغ عثمان أن ابن ذي الحبكة النهدي يعالج نيْرنجًا [النيرج: نوع من السحر] قال محمد بن سلمة: إنما هو نيرنج، فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك فإن أقرَّ به أوجعه، فدعا به، فسأله، فقال: إنما هو رفق وأمر يعجب منه، فأمر، فعُزِّرَ، وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان: (إنه قد جُدّ بكم فعليكم بالجدّ وإياكم والهزّال). فكان الناس عليه وتعجبوا من عثمان على وقوف مثل خبره فغضب، فنفر في الذين نفروا.
فراسته
دخل رجل على عثمان فقال له عثمان: يدخل عليّ أحدكم والزنا في عينيه، فقال الرجل: أَوَحْيٌ بعد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ؟! فقال: لا، ولكن فراسة صادقة.
أوليات عثمان
[السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 131]
هو أول من رزق المؤذنين، وأول من ارتج عليه في الخطبة، وأول من قدَّم الخطبة في العيد على الصلاة، وأول من فوَّض إلى الناس إخراج زكاتهم، وأول من ولي الخلافة في حياة أمه، وأول من اتخذ صاحب شرطة، وأول من هاجر بأهله من هذه الأمة، وأول من جمع الناس على حرف واحد في القراءة، وأول من زاد النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء، وأول من نخل له الدقيق، وأول من أقطع القطائع، وأول من حمى الحمى لنعم الصدقة.
حَجَّه ـ رضي اللَّه عنه ـ
[ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 3/ص 70]: [ص 35].
حجَّ عثمان بالناس سنوات خلافته كلها إلا آخر حجة، وحجَّ بأزواج النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ كما كان يصنع عمر.
قتله
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 689، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 58، وفي الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 690ـ 691: (قتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة)، (خمس وسبعين سنة)، (وثلاث وستين سنة).
قتل عثمان يوم الجمعة 18 ذي الحجة سنة 35 من الهجرة (يونيه سنة 656 م) بعد العصر، وكان يومئذٍ صائمًا. قال ابن إسحاق: قتل عثمان على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا، واثنين وعشرين يومًا من مقتل عمر بن الخطاب، وعلى رأس خمس وعشرين من متوفى رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ.
دفنه
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 688، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 69].
دفن في حش كوكب وقد كان اشتراه ووسع به البقيع، ليلة السبت بين المغرب والعشاء فصلَّى عليه جبير بن مطعم [هو جبير بن مُطعم بن عديَّ بن نوفل بت عبد مناف، أبو سعيد، القرشي، المتوفى سنة 58 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 1/ص 184، تهذيب التهذيب ج 2/ص 63، تقريب التهذيب ج 1/ص 125، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 161، الكاشف ج 1/ص 180، تاريخ البخاري الكبير ج 2/ص 225، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 6، الجرح والتعديل ج 2/ص 2113، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 78، أُسد الغابة ج 1/ص 322، الإصابة ج 1/ص 462، الاستيعاب ج 1/ص 432، شذرات الذهب ج 1/ص 59، الوافي بالوفيات ج 11/ص 58، البداية والنهاية ج 8/ص 46، سير أعلام النبلاء ج 3/ص 95، الثقات ج 3/ص 50، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 57، نقعة الصديان ترجمة 283] وخلفه حكيم بن حِزام [حكيم بن حِزام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى، أبو خالد، صحابي، قرشي، وهو ابن أخي خديجة أم المؤمنين، مولده بمكة في الكعبة، شهد حرب الفجار، كان صديقًا للنبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قبل البعثة وبعدها، عمَّر طويلًا، قيل: 120 سنة، توفي سنة 54 هـ بالمدينة، وفي وفاته خلاف قيل: سنة 50 و 54 و 58 و 60، كان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام، عالمًا بالنسب، أسلم يوم الفتح، وهو من قال الرسول ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فيه يومئذٍ: "من دخل دار أبو سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حِزام فهو آمن". للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 1/ص 317، تهذيب التهذيب ج 2/ص 447، تقريب التهذيب ج 1/ص 194، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 248، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 11، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 102، الجرح والتعديل ج 3/ص 786، صفة الصفوة ج 1/ص 304، شذرات الذهب ج 1/ص 60]، وأبو جهم بن [ص 36] حذيفة [هو عامر أو عمير، أبو عبيد بن حذيفة بن غانم، أبو جَهم، من قريش من بني عدي بن كعب، أحد المعمّرين، أسلم يوم فتح مكة، اشترك في بناء الكعبة مرتين، الأولى: في الجاهلية، والثانية: حين بناها ابن الزبير سنة 64 هـ، ومات في تلك الفينة سنة 70 هـ، وهو أحد الأربعة الذين دفنوا عثمان. للاستزادة راجع: نسب قريش ص 369، سمط اللآلى ص 539 والإصابة، الكنى، ترجمة 206]، وسيأتي تفصيل قتله ودفنه في آخر هذا الكتاب إن شاء اللَّه.
ما خلف عثمان
كان لعثمان عند خازنه يوم قتل 30.500.000 درهم ومن الدنانير 100.50 أي ما يزيد عن 800.000 جنيه فانتهبت وذهبت، وترك 1000 بعير بالرَّبذة. وترك صدقات بها براديس وخيبر ووادي القرى قيمة 10.000.000 دينار.
صدقاته
عن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر. فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج اللَّه عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: لقد قدمت لعثمان ألف راحلة برًَّا وطعامًا قال: فغدا التجار على عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه. فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة برًَّا وطعامًا. بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا، فدخلوا، فإذا ألف وقر قد صدت في دار عثمان فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر. قال: قد زادوني قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادوني بكل درهم عشرة. هل عندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة.
خوفه
كان لعثمان عبد فقال له: إني كنت عركت أذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه ثم قال عثمان: اشدد، يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة. وروي عنه أنه قال: (لو أني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير)
ثناء عليٌّ عليه
قال عليٌّ ـ رضي اللَّه عنه ـ: كان عثمان أوصلنا للرحم وأتقانا للرب. وقال ـ رضي اللَّه عنه ـ: أنا وطلحة والزبير وعثمان كما قال اللَّه تعالى: {ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ متَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. وسأله سائل عن عثمان بعد قتله فقال له: إن عثمان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، واللَّه يحب المحسنين.
الأحاديث الواردة في فضله
قال رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ:
ـ1ـ (اللَّهم إني رضيت عن عثمان فارض عنه).
ـ2ـ (غفر اللَّه لك يا عثمان ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة).
ـ3ـ (عثمان أحيا أمتي وأكرمها).
ـ4ـ (عثمان في الجنة).
ـ5ـ (عثمان حيي تستحي منه الملائكة).
ـ6ـ (عثمان رفيقي معي في الجنة).
ـ7ـ (عثمان وليي في الدنيا والآخرة).
ـ8ـ (رحمك اللَّه يا عثمان ما أصبت من الدنيا، ولا أصابت منك).
ـ9ـ (يا عثمان إنك ستبلى بعدي فلا تقاتلن).
عثمان وأبو عبيدة
اختصم عثمان وأبو عبيدة عامر بن الجراح، فقال أبو عبيدة: يا عثمان تخرج عليَّ في الكلام وأنا أفضل منك بثلاث. فقال عثمان: وما هن؟ قال: الأولى إني كنت يوم البيعة حاضرًا وأنت غائب، والثانية شهدت بدرًا ولم تشهده، والثالثة كنت ممن ثبت يوم أحد ولم تثبت [ص 38] أنت. فقال عثمان: صدقت، أما يوم البيعة فإن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعثني في حاجة ومدَّ يده عني، وقال: هذه يد عثمان بن عفان وكانت يده الشريفة خيرًا من يدي. وأما يوم بدر فإن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ استخلفني على المدينة، ولم يمكنني مخالفته، وكانت ابنته رقية مريضة واشتغلت بخدمتها حتى ماتت ودفنتها. وأما انهزامي يوم أحد فإن اللَّه عفا عني وأضاف فعلي إلى الشيطان. فقال تعالى: {إنَّ الذَّيِنَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ إنَّ اللَّه غَفُورٌ حَلِيم} [آل عمران: 155] فخصمه عثمان وغلبه. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:00 am | |
| عثمان بن عفان عثمان بن عفان ذو النورين ( 5 من 15 ) السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي الفصل الثاني: خلافة عثمان بن عفَّان
[المسعودي، مروج الذهب ج 2/ص 341] ـ رضي اللَّه عنه ـ (24 هـ/ 644 م) [ص 41].
عثمان قبل الخلافة
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 5/ص 43].
كان عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ تاجرًا غنيًا، جميل الصورة. وقد بادر إلى الإسلام بناء على دعوة أبي بكر الصدَّيق فزوَّجه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ رقية وهاجر بها إلى الحبشة، ثم زوَّجه أم كلثوم بعد وفاتها. وكان رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يثق به ويحبه ويكرمه لحيائه، ودماثة أخلاقه، وحسن عشرته، وما كان يبذله من المال لنصرة المسلمين، وبشره بالجنة كأبي بكر وعمر وعلي وبقية العشرة، وأخبره بأنه سيموت شهيدًا.
وكان أحد كتاب الوحي، لكن لم يكن له في الغزوات حظ كغيره من الصحابة مثل أبي بكر، وعمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وجعفر، وطلحة، وخالد بن الوليد، وغيرهم، فلم يرق دمًا، ولم يبارز أحدًا، ولم يخرج أميرًا على جيش في إحدى السرايا، ولم يثبت في غزوة أحد مع رسول اللَّه، واستخلفه رسول اللَّه على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع وإلى غطفان، وكان محبوبًا من قريش، وكان حليمًا، رقيق العواطف، كثير الإحسان. وقد توفي رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو عنه راض به، وروى عن رسول اللَّه مائة وستة وأربعين حديثًا، وكانت العلاقة بيننا وبين أبي يكر وعمر وعليّ على أحسن ما يرام، ولم يكن من الخطباء حتى إنه قد ارتج عليه في أول خطبة خطبها، وكان أعلم الصحابة بالمناسك، حافظًا للقرآن، ولم يكن متقشفًا مثل عمر بل كان يأكل اللين من الطعام.
هذه صفة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ قبل الخلافة [المسعودي، مروج الذهب ج 2/ص 341] خلافة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ
(سنة 24 هـ/ 644 م): [ص 42].
كانت مبايعة عثمان يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة 23 هـ، واستقبل الخلافة في المحرم سنة 24 هـ، وقيل لهذه السنة عام الرُّعاف [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 589، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 475، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 123، الذهبي، تاريخ الإسلام ج 3/ص 311.]، لأنه كثر فيها الرُّعاف [الرُّعاف: الدم يخرج من الأنف. [القاموس المحيط، مادة: رَعَفَ].
في الناس، ولي عثمان الخلافة وعمره 68 عامًا ميلاديًا، أو 70 عامًا هجريًا، أي أنه كان في سن الشيخوخة [جاء في تاريخ القرون الوسطى لجامعة كمبردج: "إن اختيار عثمان للخلافة تمَّ بعد تردد طويل، وذلك لأنه أضعف الستة وألينهم عريكة، وكان كلّ فيهم يؤمل أن يحكم بواسطته، ثم يخلفه، وهذا الاختيار كان كردّ فعل لخلافة عمر القوية الشديدة."]، وقد كان عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ يخشى أن يميل الخليفة بعده إلى أقاربه، ويحابيهم، ويحرم ذوي الكفايات فتسوء الحال، فقال لعليّ: إن وليت من أمر المؤمنين شيئًا فلا تحملن بني عبد المطلب على رقاب الناس. وقال لعثمان: يا عثمان إن وليت من أمر المسلمين شيئًا فلا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس. وكذلك قال لعبد الرحمن بن عوف: فإن كنت على شيء من أمر الناس يا عبد الرحمن فلا تحمل ذوي قرابتك على رقاب الناس.
أما أبو بكر ـ رضي اللَّه عنه ـ فإنه قال لما اختار عمر للخلافة: (أترضون بمن أستخلف عليكم فإني واللَّه ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوه) [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 352، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 273].
ثم إن عمر احتاط فأوصى الخليفة بعده بأن يبقى عماله سنة وليس في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك، ولندع ذلك الآن إلى فرصة أخرى.
لما بويع عثمان خرج إلى الناس وأراد أن يخطبهم فأُرْتِجَ عليه، ثم قال بعد أن حمد اللَّه وأثنى عليه:
(أيها الناس إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أيامًا، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسُيعَلّمنا اللَّه) لكنه خطبهم خطبة أخرى ذكرها الطبري [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 589] فقال: [ص 43].
"إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه فلقد أتيتم صُبّحتهم أو مُسيّتم. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم باللَّه الغرور. اعتبروا بمن مضى. ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلًا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى اللَّه بها، واطلبوا الآخرة فإن اللَّه قد ضرب لها مثلًا والذي هو خير فقال: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} [الكهف: 45] إلى قوله أملًا [الكهف: 45] وهذه خطبة كما يراها القارئ في الزهد واحتقار الدنيا وعدم الركون إليها.
وأول ما فعل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ بعد البيعة، أنه جلس في جانب المسجد ودعا عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب [هو عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي، صحابي، من أنجاد قريش وفرسانهم، ولد في عهد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، أسلم بعد إسلام أبيه، ثم سكن المدينة، غزا إفريقية مع عبد اللَّه بن سعد، ورحل إلى الشام في أيام علي، فشهد صفِّين مع معاوية، وقُتل فيها. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 5/ص 314، الإصابة ج 2/ص 423، مقاتل الطالبين ص 12، الأخبار الطوال ص 180.]، وكان قد قتل جماعة من الذين تسببوا في قتل أبيه وشاور الأنصار في أمره وأشار عليّ بقتله. فقال عمرو بن العاص: لا يقتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم. فجعلها عثمان دية واحتملها وقال: أنا وليه.
وكان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري إذا رأى عبيد اللَّه يقول:
ألا يا عبيد اللَّه ما لك مهرب *** ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دمًا واللَّه في غير حله *** حرامًا وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل *** أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه والحوادث جمة *** نعم أتهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته *** يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
كان الهرمزان [الهُرمُزان: هو من أمراء الجيش الفارسي في معركة القادسية سنة 14 هـ. انهزم إلى خوزستان حيث قاوم العرب مقاومة عنيفة.] من قواد الفرس، وقد أسره المسلمون بتستر وأرسلوه إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب، فلما رأى عمر سأل: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب، ولا ديوان فقال: "ينبغي له أن يكون نبيًا"، ثم أسلم وفرض له عمر ألفين وأنزله بالمدينة. وقيل: إن السكين التي قتل بها عمر رؤيت قبل قتله عند الهرمزان فلما بلغ عبيد [ص 44] اللَّه بن عمر ذلك ذهب إليه وقتله، فهذا هو الهرمزان المذكور في شعر زياد بن لبيد. فشكا عبيد اللَّه إلى عثمان زياد بن لبيد فنهى عثمان زيادًا فقال في عثمان:
أبا عمرو عبيد اللَّه رهن *** فلا تشكك بقتل الهْرْمزان
أتعفو إذ عفوت بغير حق *** فما لك بالذي تحكي يدان
فدعا عثمان زيادًا فنهاه وشذ به.
ولاية سعد بن أبي وقاص
[هو سعد بن أبي وقّاص مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري من أخوال النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فهو من بني زهرة أهل آمنة بنت وهب أم النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وكان يعتَزْ بهذه الخُوُّولَة، أبو إسحاق، هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، وأحد الستة الذين عينهم عمر بن الخطاب للخلافة، ويقال له: فارس الإسلام، للاستزادة راجع: الاستيعاب ج 2/ص 870، الإصابة ج 2/ص 30، المِلل والنِحَل ج 1/ص 20، أشهر مشاهير الإسلام ج 3/ص 535، الطبقات الكبرى ج 1/ص 21، تحفة الأحوذي ج 10/ص 253، سير أعلام النبلاء ج 1/ص 62، زعماء الإسلام ص 114، رجال حول الرسول ص 141، سعد بن أبي وقاص وأبطال القادسية للسحّار، الرياض النضرة ج 2/ص 292، صفة الصفوة ج 1/ص 138، تهذيب ابن عساكر ج 6/ص 93، المعارف ص 106، أُسْد الغابة ج 2/ص 290، جمهرة أنساب العرب 71، تاريخ الإسلام ج 1/ص 79، فتوح مصر وأخبارها ص 318، البداية والنهاية ج 8/ص 72، صور من حياة الصحابة ص 285، الأعلام ج 3/ص 87.] الكوفة [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 475، تاريخ الخلفاء ص 123، الذهبي تاريخ الإسلام ج 3/ص 315.] (سنة 25 هـ/ 646 م):
كان عمر بن الخطاب ـ رضي اللَّه عنه ـ عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة، وولى مكانه المغيرة بن شعبة[هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس، أبو عيسى، الثقفي، المتوفى سنة 50 هـ أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم، يقال له: "مغيرة الرأي"، أسلم قبل الحديبية وكانت سنة 5 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 8181، أُسْد الغابة ج 4/ص 160، طبقات ابن سعد ج 4/ص 200، الطبري ج 6/ص 100، ذيل المذيل ج 15/ص 18، ابن الأثير ج 3/ص 111، تهذيب الكمال ج 3/ص 68، تهذيب التهذيب ج 10/ص 86، الأعلام ج 7/ص 57.]، وقد اتهم سعد بأنه لا يحسن الصلاة، وأن الصيد يلهيه ولا يقسم بالسوية، [ص 45] ولا يعدل في القضية. لكنها تُهم لم تثبت، قد أذاعها بعض حساده، فأوصى عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ الخليفة من بعده أن يستعمل سعدًا وقال: (إني لم أعزله عن سوء ولا خيانة). فكان أول عامل بعث به عثمان على الكوفة سعد، وعزل المغيرة الذي كان يومئذ بالمدينة. وروى الواقدي أن عمر أوصى أن يقر عماله سنة، فلما ولي عثمان أقرَّ المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله واستعمل سعد بن أبي وقاص، ثم عزله واستعمل الوليد بن عقبة [هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب الأموي، القرشي، والٍ من فتيان قريش وشعرائهم وأجوادهم، فيه ظُرف ومجون ولهو، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه، أسلم يوم فتح مكة، بعثه رسول اللَّه على صدقات بني المصطلق، ثم ولاه عمر صدقات بني تغلب، ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص سنة 25 هـ فانصرف إليها، وأقام إلى سنة 29 هـ، فشهد عليه جماعة عند عثمان بشرب الخمر فعزله، ودعا به إلى المدينة، فجاء، فحدّه وحبسه، ولمَّا قُتل عثمان تحوَّل إلى الجزيرة الفراتية، فسكنها، واعتزل الفتنة بين معاوية وعلي، لكنه حرَّض معاوية، ورثى عثمان، مات سنة 61 هـ، بالرقة. للاستزادة راجع: الأغاني ج 5/ص 122، معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص 193]. قال الطبري [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590.]: فإن كان ما رواه الواقدي من ذلك فولاية سعد الكوفة من قبل عثمان كانت سنة 25 هـ. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:02 am | |
| عثمان بن عفان عثمان بن عفان ذو النورين ( 6 من 15 ) السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي الفصل الثالث: كتب عثمان بن عفان ـ رضي اللَّه عنه ـ
كتب عثمان
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590].
ـ1ـ كتابه إلى عماله: [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590].
كان أول كتاب كتبه عثمان إلى عماله:
"أما بعد، فإن اللَّه أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، و لم يتقد إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة و لم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم مالهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء".
ـ2ـ كتابه إلى أمراء الأجناد [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 591]:
وكان أول كتاب كتبه إلى أمراء الأجناد في الفروج:
"أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان عن ملأ منا. ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير اللَّه ما بكم ويستبدل بكم غيركم. فانظروا كيف تكونون فيما ألزمني اللَّه النظر فيه والقيام عليه".
ـ3ـ كتابه إلى عمَّال الخراج: [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 591]:
كان أول كتاب كتبه إلى عمَّال الخراج:
"أما بعد، فإن اللَّه خلق الخلق بالحق فلا يقبل إلا الحق. خذوا الحق وأعطوا الحق به. [ص 50] والأمانة الأمانة ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم. والوفاء الوفاء ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن اللَّه خصم لمن ظلمهم".
ـ4ـ كتابه إلى العامة: [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 591].
وكان كتابه إلى العامة:
"أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالإقتداء والإتباع فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم فإن أمر هذه صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن فإن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قال: "الكفر في العجمة فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا.
هذه أربعة كتب كتبها عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ في أول خلافته، وقد أوصى عماله برعاية شؤون المسلمين والذميين، وأن لا يقصروا همهم على جباية الأموال لئلا يرهقوا العباد وينسوا أول واجب عليهم، وهو العدل بين الرعية، وأمر أمراء الأجناد في الفروج أي الثغور بأن يتبعوا أوامر عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ، وأن لا يحيدوا عنها. ثم أنه شدَّد على عمال الخوارج بأخذ الحق والتمسك بالأمانة والوفاء، وأوصى باليتيم والمعاهد خيرًا، وهذه كلها من تعاليم الإسلام وفضائله.
وعثمان أول خليفة زاد الناس في أعطياتهم مائة وكان عمر يجعل لكل نفس منفوسة [منفوسة: أي مولودة. [القاموس المحيط، مادة: نفس.] من أهل الفيء في رمضان درهمًا في كل يوم، وفرض لأزواج رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ درهمين. فقيل له: لو صنعت طعامًا فجمعتهم عليه؟ فقال: أُشبع الناس في بيوتهم. فأقر عثمان الذي كان صنع عمر وزاد فوضع طعام رمضان، فقال: للمتعبد الذي يتخلف في المسجد وابن السبيل والمعترّين من الناس.
عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة وتولية الوليد بن عقبة
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 476].
لم تطل ولاية سعد على الكوفة فعزله عثمان وولى بعده الوليد بن عقبة والسبب في عزل سعد هو أنه استقرض من عبد اللَّه بن مسعود [هو عبد اللَّه بن مسعود بن غافل بن حبيب شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس، الهُذَلي، أبو عبد الرحمن، صحابي، من أكابرهم فضلًا وعقلًا وقربًا من رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو من أهل مكة، ومن السابقين إلى الإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، كان خادم رسول اللَّه الأمين، وصاحب سرّه ورفيقه في حلِّه وترحاله وغزواته، يدخل عليه كل وقت ويمشي معه. نظر إليه عمر يومًا وقال: وعاء مليء علمًا، ولي بعد وفاة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان، فتوفي فيها نحو ستين عامًا، كان قصيرًا جدًا، يكاد الجلوس يوارونه، كان يحب الإكثار من التطيّب، فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مرَّ، من طيب رائحته. للاستزادة راجع: الإصابة ج 4/ص 129، الاستيعاب ج 1/ص 359، أُسد الغابة ج 3/ص 256، تذكرة الحفاظ ج 1/ص 12، البداية والنهاية ج 7/ص 162، شذرات الذهب ج 1/ص 38، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 100، سير أعلام النبلاء ج 1/ص 331، صفة الصفوة ج 1/ص 154، غاية النهاية ج 1/ص 458، البدء والتاريخ ج 5/ص 97، حلية الأولياء ج 1/ص 124، تاريخ الخميس ج 2/ص 257، البيان والتبيين ج 2/ص 56، المحبّر ص 161، تهذيب الكمال ج 2/ص 740، تهذيب التهذيب ج 6/ص 27، تقريب التهذيب ج 1/ص 450.] من بيت المال مالًا فأقرضه، فلما تقاضاه لم يتيسر [ص 51] عليه فارتفع بينهما الكلام حتى استعان عبد اللَّه بأناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس على استنظاره فاقتربوا وبعضهم يلوم بعضًا. يلوم هؤلاء سعدًا ويلوم هؤلاء عبد اللَّه.
عن قيس بن أبي حازم قال: كنت جالسًا عند سعد وعنده ابن أخيه هاشم بن عتبة [هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، صحابي، خطيب من الفرسان، يلقب بالمِرْقال، وهو ابن أخي سعد بن أبي وقاص، أسلم يوم فتح مكة، ونزل الشام بعد فتحها، أرسله عمر مع ستة عشر رجلًا من جند الشام مددًا لسعد بن أبي وقاص في العراق، شهد القادسية، أصيبت عينه يوم اليرموك فقيل له الأعور، وفتح جلولاء، وكان مع علي بن أبي طالب في حروبه، تولى قيادة الرَّجَّالة في صفّين، قتل في آخر أيامها سنة 37 هـ. للاستزادة راجع: ذيل المذيل، الأخبار الطوال، رغبة الآمل ج 3/ص 115، معجم ما استعجم، نسب قريش، وقعة صفّين، مرآة الجنان ج 1/ص 10.] فأتى ابن مسعود سعدًا فقال له: أدِّ المال الذي قِبَلك. فقال له سعد: ما أراك إلا ستلقى شرًَّا. هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل؟! فقال: أجل واللَّه إني لابن مسعود وإنك لابن حمينة. فقال هاشم: إنكما لصاحبا رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ينظر إليكما. فطرح سعد عودًا كان في يده وكان رجلًا فيه حدة ورفع يديه. وقال: اللَّهم رب السماوات والأرض. فقال عبد اللَّه: ويلك قل خيرًا ولا تلعن. فقال سعد عند ذلك: أما واللَّه لولا اتقاء اللَّه لدعوت عليك دعوة لا تخطئك. فولى عبد اللَّه سريعًا حتى خرج، وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة.
غضب عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ على سعد وعلى ابن مسعود بسبب هذه المشادة فعزل سعدًا ولم يعزل ابن مسعود، بل أقره واستعمل الوليد بن عقبة، وكان عاملًا لعمر على ربيعة بالجزيرة، فقدم الكوفة، فلم يتخذ لداره بابًا حتى خرج من الكوفة.
ولعل القارئ يعجب لماذا أقر عثمان ابن مسعود ولم يعزله؟ فنقول إن عبد اللَّه بن [ص 52] مسعود لما كان غلامًا كان يرعى أغنام عقبة بن أبي معيط [هو عقبة بن أبان بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس، من مقدمي قريش في الجاهلية، كنيته أبو الوليد، كان شديد الأذى للمسلمين عند ظهور الدعوة، فأسروه يوم بدر وقتلوه، ثم صلبوه، وهو أول مصلوب في الإسلام، قتل سنة 2 هـ. للاستزادة راجع: الروض الآنف ج 2/ص 76، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 27.]، وكان إسلامه قديمًا، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فهو راعٍ لعقبة بن أبي معيط ـ والد الوليد ـ أي أنه من أتباع بني أمية، وكان عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ بعثه إلى الكوفة معلمًا ووزيرًا، ثم إن ابن مسعود لم يكن واليًا حتى يعزله عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ، بل كان وزيرًا للمالية.
أما الوليد الذي خلف سعدًا فهو أموي، أخو عثمان لأمه، أسلم يوم الفتح، ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله عز وجل: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] نزلت في الوليد بن عقبة وذلك أن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعثه مصدقًا إلى بني المصطلق فعاد وأخبر عنهم أنهم ارتدوا ومنعوا الصدقة، وذلك أنهم خرجوا إليه يتلقونه فهابهم، فانصرف عنهم، فبعث إليهم رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ خالد بن الوليد [هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، المخزومي، القرشي، سيف اللَّه الفاتح الكبير، الصحابي، كان من أشراف قريش في الجاهلية، يلي أعنة الخيل، شهد مع مشركيهم حروب الإسلام إلى عمرة الحديبية، أسلم قبل فتح مكة هو وعمرو بن العاص سنة 7 هـ، فسرَّ به رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وولاه الخيل، ولمَّا ولي أبو بكر وجَّهه لقتال مسيلمة ومن ارتد من أعراب نجد، ثم سيَّره إلى العراق سنة 12 هـ، ففتح الحيرة وجانبًا عظيمًا منه، وحوَّله إلى الشام وجعله أمير من فيها من الأمراء. ولمَّا ولي عمر عزله عن قيادة الجيوش بالشام وولى أبا عبيدة بن الجرَّاح، فلم يثن ذلك من عزمه، واستمر يقاتل بين يدي أبي عبيدة إلى أن تمَّ لهما الفتح سنة 14 هـ، فرحل إلى المدينة، فدعاه عمر ليوليه، ومات في حمص في سوريا، وقيل: بالمدينة سنة 21 هـ. كان مظفرًا خطيبًا فصيحًا، يشبه عمر بن الخطاب في خَلْقه وصفته، قال أبو بكر: عجزت النساء أن يلدن مثل خالد. روى له المحدثون ثمانية عشر حديثًا، وأخباره كثيرة. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 413، الاستيعاب ج 2/ص 427، تهذيب الكمال ج 1/ص 366، تقريب التهذيب ج 1/ص 219، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 285، الكاشف ج 1/ص 275، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 136، الجرح والتعديل ج 3/ص 1607، لسان الميزان ج 2/ص 389، أُسد الغابة ج 2/ص 109، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 124، طبقات ابن سعد ج 7/ص 479، سير الأعلام ج 1/ص 366، البداية والنهاية ج 7/ص 113، شذرات الذهب ج 1/ص 15، الثقات ج 3/ص 101، صفة الصفوة ج 1/ص 268، تاريخ الخميس ج 2/ص 247، ذيل المذيّل ص 43.] فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذيِنَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] [ص 53].
لما قدم الوليد على سعد قال له: واللَّه ما أدري أَكِسْتَ [أَكِسْتَ: يقال رجل أَوْكَس أي خسيس أو قليل الحظ. [القاموس المحيط، مادة: وَكَسَ]. بعدنا أم حمقنا بعدك؟! فقال: "لا تجز عن أبي إسحاق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون". فقال سعد: "أراكم واللَّه ستجعلونه مُلكًا". وكان الوليد من رجال قريش ظرفًا وحلمًا وشجاعة وأدبًا، وكان من الشعراء المطبوعين.
قال الطبري [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 595]: فقدم الوليد في السنة الثانية من إمارة عثمان، وقد كان سعد عمل عليها سنة وبعض أخرى فقدم الكوفة، وكان أحب الناس في الناس وأرفقهم بهم، فكان كذلك خمس سنين وليس على داره باب.
وحدثنا أبو فرج الأصفهاني في الجزء الخامس من الأغاني عن سبب تولية الوليد الكوفة فقال:
لم يكن يجلس مع عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ على سريره إلا العباس ابن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب والحكم بن العاص والوليد بن عقبة، فأقبل الوليد يومًا فجلس، ثم أقبل الحكم. فلما رآه عثمان زحل [زَحَل: أيّ تَنحَّى] له عن مجلسه فلما قام الحكم قال له الوليد: واللَّه يا أمير المؤمنين، لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت عمك على ابن أمك. فقال له عثمان رضي اللَّه تعالى عنه: إنه شيخ قريش، فما البيتان اللذان قلتهما؟ قال: قلت:
رأيت لعم المرء زُلْفَى قرابة *** دون أخيه حادثًا لم يكن قدمًا
فأمَّلْتُ عَمْرًا أن يَشِبّ وخالدًا *** لكي يدعواني يوم مزحمة عمّا
يعني عمرًا وخالدًا ابني عثمان. فرق له عثمان وقال له: قد وليتك العراق ـ يعني الكوفة ـ اهـ. ولا يصدق إنسان يعرف مكانة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ أنه ولى الوليد الكوفة بعد أن أنشده هذين البيتين إرضاء له.
نقض أهل الإسكندرية الصلح
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 594، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 476.] (سنة 25 هـ/ أواخر سنة 645 م): جاء في دائرة المعارف البريطانية أنه بعد استيلاء العرب على الإسكندرية بقليل، انتهز [ص 54] الروم فرصة تغيب عمرو بن العاص [هو عمرو بن العاص بن وائل بن أشم بن سعيد بن سهم، أبو عبد اللَّه، السهمي، القرشي، المتوفى سنة 43 هـ، أسلم في عام الحديبية، وهو واحد من عظماء العرب ودُهَاتهم وأولي الرأي والحزم والدهاء. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 8/ص 66، تقريب التهذيب ج 2/ص 86، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 90، الكاشف ج 8/ص 10، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 165، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 330، الجرح والتعديل ج 6/ص 200، الثقات ج 3/ص 120، الاستيعاب ج 3/201، أُسد الغابة ج 4/ص 330، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 314، الإصابة ج 4/ص 515، سير الأعلام ج 3/ص 6، طبقات ابن سعد ج 9/ص 77، البداية والنهاية ج 8/ص 96، أسماء الصحابة الرواة ص 110، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 123، جمهرة الأنساب 215] وارتحال جزء كبير من جيشه. فاستولوا على الإسكندرية. فلما بلغ عمرو بن العاص ذلك عاد سريعًا واستولى على المدينة، وهذا يوافق ما جاء في ابن الأثير.
كان استيلاء الرومان على الإسكندرية في أوائل سنة 25 هـ وأواخر سنة 645 م وكان عمرو بن العاص استخلف على الإسكندرية عبد اللَّه ابن حذافة [هو عبد اللَّه بن حذافة بن قيس السهمي القرشي، أبو حذافة، صحابي، أسلم قديمًا، بعثه النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ إلى كسرى، هاجر إلى الحبشة، وقيل: شهد بدرًا، أسره الروم أيام عمر، ثم أطلقوه، شهد فتح مصر، توفي بها أيام عثمان سنة 33 هـ، كانت فيه دعابة وله حديث. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 5/ص 185، إمتاع الأسماع ج 1/ص 308، حسن الصحابة ص 305، المحبّر ص 77، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 87، الجمحي ص 196]. قال الأستاذ بتلر: "وعلى كل حال فمن المؤكد أنه قد عزل قبل نزول الجيش الروماني إلى البر، وأن خلفه لم يكن كفًا فترك وسائل الدفاع في حالة ضعف شديد".
أما رواية الطبري [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 594] فتفيد أن عمرو بن العاص كان قد استدعي إلى مكة، فلما ذاعت أخبار الثورة في الإسكندرية صدرت الأوامر إليه بتولي القيادة.
وجاء في تاريخ كامبردج للقرون الوسطى [تاريخ كامبردج للقرون الوسطى ج 2/ص 35.] ما يؤيد استدعاء عمرو بن العاص بعد عزله وتولية عبد اللَّه.
كاتب الروم قسطنطين بن هرقل [هو ابن هرقل الثاني ملك الروم] ـ وكان الملك يومئذ ـ يخبرونه بقلة من عندهم من [ص 55] المسلمين ـ وكانوا ألف جندي ـ وبما هم فيه من الذلة وأداء الجزية، فبعث رجلًا من أصحابه يقال له: "أمنويل" Emanuel The Eunuchفي ثلاثمائة مركب مشحونة بالمقاتلة ـ ولم يكن للمسلمين أسطول كالأسطول الروماني. وقد رست هذه المراكب في ميناء الإسكندرية بلا إنذار، فقتل حرس الإسكندرية من المسلمين ـ ويبلغون ألفًا ـ ولم ينج منهم إلا القليل. ولم يقتصر الجيش الروماني على الاستيلاء عليها، بل توغلوا في البلاد والقرى المجاورة في أرض الدلتا واستولوا على الغلال والأموال بلا حساب، وعاملوا الأهالي معاملة الأعداء المحاربين.
كان العنصر الروماني في الإسكندرية هو السائد، ويرى الأستاذ بتلر أن الجيش الروماني لو استمر في زحفه إلى الفسطاط بدلًا من ضياع الوقت في بلاد الدلتا، لكان في وسعه التغلب على عبد اللَّه بن أبي سرح [هو عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح القرشي، العامري، من بني عامر بن لؤي، من قريش، فاتح أفريقية، فارس بني عامر، من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة، وهو من أهلها، وكان من كتَّاب الوحي، كان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، ولي مصر سنة 25 هـ، بعد عمرو بن العاص، فاستمر نحو 12 عامًا، اعتزل الحرب بين علي ومعاوية في صفَّين، توفي بعسقلان فجأة وهو قائم يصلي سنة 37 هـ، وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاع. للاستزادة راجع: أُسد الغابة ج 3/ص 173، ابن إياس ج 1/ص 26، الاستقصاء ج 1/ص 35، معالم الإيمان ج 1/ص 110، ذيل المذيّل ص 31، تاريخ الجزائر ج 1/ص 317، الروض الآنف ج 2/ص 274، ابن عساكر ج 7/ص 432، البداية والنهاية ج 7/ص 250، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 114، النجوم الزاخرة ج 1/ص 7] وإعادة حصن بابليون، ولكنهم لم يقدموا على ذلك وبذا مكنوا عمرو بن العاص من إعادة مركزه وتنظيم جيشه اهـ.
سار عمرو في خمسة عشر ألفًا، والتقى بالجيش الروماني الذي يفوقه عددًا بـ "نقيوس"، فالتحمت بينهم الحرب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأصيب جواد عمرو بن العاص بسهم فنزل واضطر أن يحارب على قدميه، وانتهى الأمر بانهزام جيش "أمنويل" وفراره نحو الإسكندرية في حالة ارتباك عظيم، فتحصنوا بها، فقاتلهم عمرو أشد قتال، ونصب المجانيق فأخذت جُدُرَها، وألح بالحرب حتى دخلها بالسيف عنوة، وقتل أمنويل وهدم المسلمون جدار الإسكندرية، وكان عمرو نذر لئن فتحها ليفعلن ذلك. ووضع عمرو على أرض الإسكندرية الخراج، وعلى أهلها الجزية، وبذلك استولى العرب للمرة الثانية. ويقول الأستاذ بتلر: "إن ذلك كان صيف سنة 646 م" [ص 56].
روى البلاذري عن يزيد بن أبي حبيب [هو يزيد بن أبي حبيب واسمه سويد، أبو رجاء، الأزدي، ثقة، فقيه، للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 3/ص 1531، تهذيب التهذيب ج 11/ص 318، الكاشف ج 3/ص 275، الجرح والتعديل ج 9/ص 1122، تاريخ الإسلام ج 5/ص 184، الثقات ج 5/ص 546] قال: "كان عثمان عزل عمرو بن العاص عن مصر وجعل عليها عبد اللَّه بن سعد، فلما نزلت الروم الإسكندرية سأل أهل مصر عثمان أن يقر عمرًا حتى يفرغ من قتال الروم، لأن له معرفة بالحرب رهيبة في أنفس العدو حتى هزم الخ".
وقد أخطأ مؤرخو العرب فقالوا: إن المقوقس كان حيًَّا في هذه الغزوة والحقيقة أنه كان قد مات منذ زمن طويل، كما قرر الأستاذ بتلر، وقد أدرك البلاذري خطأ وجود المقوقس في ذلك الوقت فقال ما نصه:
"وروي أن المقوقس اعتزل أهل الإسكندرية حين نقضوا فأقره عمرو ومن معه على أمرهم الأول، وروي أيضًا أنه كان قد مات قبل الغزاة".
والحقيقة أن بنيامين كان بطريركًا وزعيمًا للوطنيين المصريين فظن المؤرخون أنه المقوقس، وهذا خلط في الحوادث والتواريخ، وقد كانت وفاة المقوقس في 21 مارس سنة 642 م [كامبردج القرون الوسطى ج 2/ص 351] على ما جاء في تاريخ كامبردج للقرون الوسطى. أما الأستاذ بتلر فيؤرخ وفاته 14 يوليه سنة 642 م. ولم يكن البطريرك بنيامين موجودًا في الإسكندرية عند دخول الروم، ويظن أنه هرب، لكنه على كل حال بقي مواليًا للعرب، ولم ينقض صلحهم، بل الذي نقضه الروم.
كانت نتيجة نقض الإسكندرية الصلح أن استولى عليها العرب مرة ثانية، وقتلوا الروم، ولم يكن هناك سبب واضح لنقض معاهدة الصلح، فما فعله الإمبراطور كان مخالفًا للقوانين الحربية، كما قال الأستاذ بتلر، ولا يوجد ما يبرره فلا غرو إذا عامل العرب الثائرين بالشدة، ثم إن عمرًا بعد أن أخضع الثوار في الإسكندرية ذهب لإخضاع المدن التي ثارت في الدلتا. ولما تمَّ له ذلك أرسل الأسرى إلى المدينة فأعادهم عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ.
وكان الروم لما خرجوا من الإسكندرية قد أخذوا أموال أهل تلك القرى من وافقهم ومن خالفهم، فلما ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الذين خالفوهم فقالوا لعمرو بن العاص: إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا، ولم نخالف نحن عليكم، وكنا على الطاعة. فرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة هذا ما ذكره ابن الأثير وأشار إليه الأستاذ بتلر معترفًا بفضل المبادئ التي [ص 57] سار عليها عمرو في إدارة حكومته وبشرف طبيعته، وكان أهل هذه القرى المذكورة الذين تظلموا لعمرو من الروم أقباطًا | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:08 am | |
| عثمان بن عفان عثمان بن عفان ذو النورين ( 8 من 15 ) السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي أمر المصاحف
[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 8] (سنة 30 هـ/ 651 م)
لما عاد حذيفة بن اليمان من غزو الباب قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمرًا لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن، ثم لا يقومون عليه أبدًا، قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناسًا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خيرٌ من قراءة غيرهم، وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد. ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خيرٌ من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرؤوا على ابن مسعود. وأهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرؤوا على أبي موسى، ويسمُّون مصحفه "لباب القلوب".
فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة بن اليمان بذلك، وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وكثير من التابعين، وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرؤه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: واللَّه لئن عشت لآتين أمير المؤمنين، ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك، فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام، وتفرَّق الناس، وغضب حذيفة، وسار إلى عثمان، فأخبره بالذي رأى وقال: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. وفي البخاري رواية عن حذيفة أنه قال لعثمان: (أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى). وكان حذيفة يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق.
جمع عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ الصحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه ورأوا جميعًا ما رأى حذيفة. فأرسل إلى حفصة بنت عمر زوجة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر، فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: إن القتل قد كثر واستحرَّ بقرَّاء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرَّاء، فيذهب من القرآن كثير. وإني أرى أن تأمر بجمعه، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت، فجمعه من الرقاع والعُسُب [العُسُب: عُسُب النخل، وهي الجريد الذي لا خوص له، واحدها عسيب]، وصدور الرجال. فكانت الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر، فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها، فأرسل عثمان إليها وأخذها منها، وأمر زيد بن ثابت [هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لَوْذان بن عمرو، أبو خارجة، الأنصاري، صحابي من أكابرهم، كان كاتب الوحي، ولد في المدينة سنة 11 ق. هـ ونشأ بمكة، قُتل أبوه وهو ابن ست سنين، هاجر مع النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو ابن 11 سنة، تعلَّم وتفقَّه في الدين، فكان رأساَ بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض، كان عمر يستخلفه على المدينة إذا سافر، فقلَّما رجع إلا أقطعه حديقة من نخل، كان ابن عباس ـ على جلالة قدره وسعة علمه ـ يأتيه إلى بيته للأخذ عنه، ويقول: العلم يؤتى ولا يأتي. وأخذ ابن عباس بركاب زيد، فنهاه زيد، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فأخذ زيد كفه وقبَّلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا، وكان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ من الأنصار، وعرضه عليه، وهو الذي كتبه في المصحف لأبي بكر، ثم لعثمان حين جهَّز المصاحف إلى الأمصار. ولما توفي سنة 45 هـ رثاه حسان بن ثابت، وقال أبو هريرة: اليوم مات حبر هذه الأمة، وعسى اللَّه أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا. للاستزادة راجع: غاية النهاية ج 1/ص 296، صفة الصفوة ج 1/ص 294، العبر للذهبي ج 1/ص 53، تهذيب التهذيب ج 3/ص 399، الاستيعاب ج 2/ص 537، الوافي بالوفيات ج 15/ص 24، طبقات ابن سعد ج 1/ص 37، الثقات ج 3/ص 135]، [ص 92] وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام [هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، القرشي، المدني، ولد سنة 1 هـ، أبو محمد، تابعي، ثقة، جليل القدر، من أشراف قريش، وهو أحد الأربعة الذين عهد إليهم عثمان بن عفان نسخ القرآن بمصاحف لتوزيعها على الأمصار، توفي سنة 43 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 6/ص 156، الإصابة ترجمة 6195]، فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا. فلما نسخوا الصحف ردَّها عثمان إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وحرق ما سوى ذلك، وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سواها، فكل الناس عرف فضل هذا العمل إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأصحاب عبد اللَّه ومن وافقهم امتنعوا عن ذلك وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود وقال: ولا كل ذلك فإنكم واللَّه سبقتم سابقينا فأربعوا على ظلعكم [أربع على ظلعك: أي أنك ضعيف فتنكب عما لا تطيقه]. ولما قدم على الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان بجمع الناس على المصحف، فصاح وقال: اسكت فعن ملأ منا فعل ذلك فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله [قال ابن قيم الجوزية، في كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 18ـ 19: "ومن ذلك جمع عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي يطلق لهم رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ القراءة بها لما كان ذلك مصلحة، فلما خاف الصحابة ـ رضي اللَّه عنه ـم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره. وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت وكان سلوكهم من تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتت ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد، وترك بقية الطرق جاز ذلك ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود وإن كان فيه نهي من سلوكها لمصلحة الأمة] [ص 93].
قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ـ {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 32] ـ فألحقناها في سورتها في المصحف.
واختلف في عدد المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق. قال السيوطي في الإتقان: والمشهور أنها خمسة. وقال ابن أبي داود من طريق سمعت أبي حاتم السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف فأرسل إلى مكة وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا. واختلف في ترتيب السور هل هو توقيفي أو باجتهاد الصحابة؟ قال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند اللَّه في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب. وقال مالك: ترتيب السور باجتهاد الصحابة. وقال السيوطي في الإتقان: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال.
مقتل يزدجرد بن شهريار
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 620، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 14، ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 158. "خراسان في الشمال الشرقي من بلاد فارس".] (سنة 31 هـ/ 651 م):
كان يزدجرد بن شهريار بن كسرى ملك فارس قد تولى في خلافة عمر بن الخطاب سنة 14 هـ، وهو الذي جمع جيشًا تحت قيادة رستم لمحاربة المسلمين، فانهزم جيشه ففر إلى خراسان. ولم يزل المسلمون يتبعونه ويقفون أثره من مدينة إلى مدينة، وهو يهرب حتى بيته جماعة من الترك فقتلوه سنة 31 هـ. وقد اختلف في سبب قتله: قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو فسأل مرزبانها مالًا، فمنعه، فخافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه، فأتوه، فبيتوه، فقتلوا أصحابه، وهرب يزدجرد حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحاء على شط المرغاب [شط المرغاب: نهر بمرو] فأوى إليه ليلًا فلما نام قتله. وزاد بعضهم أن النقار أخذ متاعه وجواهره وألقى جسده في المرغاب، وأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره حتى خفي عليهم عند منزل النقار، فأخذوه، فأقر لهم بقتله، وأخرج متاعه، فقتلوا النقار وأهل بيته، وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد وأخرجوه من المرغاب، فجعلوه في تابوت من خشب. وقال بعضهم: إنهم حملوه إلى إصطخر فدفن بها في أول سنة 31 هـ. وهو آخر ملوك الفرس، وصفا الملك بعده للعرب. وكان عمره عندما قُتل 34 سنة.
فتح خراسان
[خراسان في الشمال الشرقي من بلاد فارس تحدها شمالًا خيوا وشرقًا أفغانستان وجنوبًا وغربًا ولايات كرمان الفارسية وفرس ولورستان والعراق العجمي. ومن أمهات مدن خراسان نيسابور وهراة ومرو وكانت قصبتها وبلخ وطالقان ونسا. للاستزادة راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 620، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 14] (سنة 34 هـ/ 652 م): [ص 95]
لما قتل عمر بن الخطاب نقض أهل خراسان وغدروا، فلما استخلف عثمان بن عفان ولَّى عبد اللَّه بن عامر بن كريز البصرة في سنة 28. ويقال 29، وهو ابن 25 سنة، وهو ابن خال عثمان بن عفان، ولد على عهد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وكان كريمًا، ميمون النقيبة [ميمون النقيبة: أي مبارك النفس مظفَّرًا بما يحاول]، فافتتح من أهل فارس ما افتتح، ثم غزا خراسان، واستخلف على البصرة زياد بن أبي سفيان [هو زياد بن أبيه، أمير من دهاة العرب، القادة الفاتحين، الولاة، من أهل الطائف، فقيل: عُبَيد الثقفي، وقيل: أبو سفيان، ولدته أمه سميّة وهي جارية الحارث بن كلدة الثقفي في الطائف سنة 1، وتبنَّاه عُبَيد الثقفي مولى الحارث بن كلدة، وأدرك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ولم يره، وأسلم في عهد أبي بكر، وكان كاتبًا للمغيرة بن شعبة، ثم لأبي موسى الأشعري أيام إمرته على البصرة، ثم ولاه علي بن أبي طالب على فارس، ولما توفي عليّ امتنع زياد على معاوية، وتحصَّن في قلاع فارس، وتبين لمعاوية أنه أخوه من أبيه "أبي سفيان" فكتب إليه بذلك، فقدم عليه وألحقه معاوية بنسبه سنة 44 هـ، قال الأصمعي: أول من ضرب الدنانير والدراهم ونقش عليها اسم "اللَّه" ومحا عنها اسم الروم ونقوشهم، زياد. للاستزادة راجع: ابن خلدون ج 3/ص 5، ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 3/ص 195، الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 6/ص 162، تهذيب ابن عساكر ج 4/ص 406، ميزان الاعتدال ج 1/ص 355، لسان الميزان ج 2/ص 493، البدء والتاريخ ج 6/ص 2، خزانة الأدب ج 2/ص 517، الذريعة ج 1/ص 331، عقود اللطائف]، وسار إلى كرمان [كرمان ولاية بين فارس، ومكران، وسجستان، وخراسان] فاستعمل عليها مجاشع بن مسعود السلمي، وأمره بمحاربة أهلها، وكانوا قد نكثوا، واستعمل على سجستان [سجستان بينها وبين كرمان 130 فرسخًا] الربيع بن زياد الحارثي، وكانوا أيضًا قد نقضوا الصلح، وسار ابن عامر إلى نيسابور، وجعل على مقدمته الأحنف بن قيس [هو الأحنف بن قيس بن معاوية بن حُصين المرِّي السعدي المنقري التميمي، أبو بحر، سيد تميم، أحد العظماء الدهاة، الفصحاء الشجعان الفاتحين، يضرب به المثل في الحلم، ولد في البصرة سنة 3 ق. هـ أدرك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ولم يره، شهد فتوح خراسان وقال ياقوت في معجم البلدان ج 3/ص 409: "أنقذه عمر سنة 18 هـ، لغزو خراسان، فدخلها وتملَّك مدنها، وهرب منه يزدجرد بن شهريار ملك الفرس إلى خاقان ملك الترك بما وراء النهر، اعتزل الفتنة يوم الجمل، ثم شهد صفِّين مع عليّ، ولمَّا انتظم الأمر لمعاوية عاتبه، فأغلظ له الأحنف في الجواب، فسُئل معاوية عن صبره عليه، فقال: هذا الذي إذا غضب، غضب له مائة ألف لا يدرون فِيمَ غضب. كان صديقًا لمصعب بن الزبير، وفد الكوفة وتوفي فيها سنة 72 هـ وهو عنده. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 7/ص 66، ابن خلكان ج 1/ص 230، ذكر أخبار أصبهان ج 1/ص 224، جمهرة الأنساب ص 206، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 10، تاريخ الخميس ج 2/ص 309، تاريخ الإسلام للذهبي ج 3/ص 129]، فأتى الطبَسين، وهما حصنان، وهما بابا [ص 96] خراسان، فصالحه أهلها على 600.000 درهم، وسار إلى قهستان، فلقيه أهلها، وقاتلهم حتى ألجأهم إلى حصنهم. وبعث ابن عامر سرية إلى رستاق زام من أعمال نيسابور، ففتحه عنوة، وفتح باخرْز [بين نيسابور وهراة]، من أعمال نيسابور أيضًا، وفتح جُوَين [يسميها أهل خراسان كوبان، بينها وبين نيسابور عشرة فراسخ]، وسبى سبيًا، ووجَّه ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي من عديِّ الرباب، وكان ناسكًا، إلى بيهق من أعمال نيسابور، فدخل حيطان البلد من ثلمة كانت فيها، ودخلت معه طائفة من المسلمين، فأخذ العدو عليهم تلك الثلمة، فقاتل الأسود حتى قتل هو، وطائفة ممن معه. وقام بأمر المسلمين بعده أخوه أدهم بن كلثوم فظفر، وفتح بيهق [من أعمال نيسابور]، وكان الأسود يدعو إلى اللَّه أن يحشره من بطون السباع والطير، فلم يواره أخوه، ودفن من استشهد من أصحابه. وفتح ابن عامر بُشت [سميت بذلك: لأنها كالظهر لنيسابور. والظهر باللغة الفارسية يقال له: بشت] من نيسابور وأشبَنذ ورُخَّ وزاره وخوَاف وأسفرائن وأرغيان [كورة من نواحي نيسابور] من نيسابور، ثم أتى أبرشهر وهي مدينة نيسابور، فحصر أهلها أشهرًا، وكان على كل ربع منها رجل موكل به، وطلب صاحب ربع من تلك الأرباع الأمان على أن يدخل المسلمين المدينة، فأعطاه وأدخلهم إياها ليلًا، ففتحوا الباب، وتحصَّن مرزبانها في القهندز [القهندز: كالحصن، تعريبها معناه: القلعة العتيقة]، ومعه جماعة. وطلب الأمان على أن يصالحه عن جميع نيسابور على وظيفة يؤديها، فصالحه على ألف ألف درهم، وولي نيسابور حين فتحها قيس بن الهيثم السلمي [هو قيس بن الهيثم بن قيس بن الصلت بن حبيب السلمي، من الخطباء الشجعان، من أعيان البصرة في صدر الإسلام، كان من أنصار بني أمية فيها، ثم قام بدعوة عبد اللَّه بن الزبير، وصحب أخاه مصعبًا في ثورته، إلى أن قُتل، فتوجَّه إلى عبد الملك بن مروان، فعفا عنه وأكرمه، توفي سنة 188 هـ بالبصرة. للاستزادة راجع: النووي ج 2/ص 64، ذيل المذيل ص 35، والمرزباني ص 333، الإصابة ج 3/ص 235]، ووجَّه ابن عامر عبد اللَّه بن خازم السلمي [هو عبد اللَّه بن خازم بن أسماء بن الصلت السلمي البصري، أبو صالح، أمير خراسان، له صحبة، كان من أشجع الناس، أسود اللون، كثير الشعر، يتعمم بعمامة خزّ سوداء، يلبسها في الجُمع والأعياد والحرب، ويقول: كسانيها رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، قال البغدادي: هو غربان العرب في الإسلام، له فتوحات وغزوات، ولي إمرة خراسان لبني أمية، واستمر عشر سنين، وفي أيامه كانت فتنة ابن الزبير، فكتب إليه ابن خازم بطاعته، فأقره على خراسان، فبعث إليه عبد الملك بن مروان يدعوه إلى طاعته، فأبى، فلما قُتل مصعب بن الزبير بعث إليه عبد الملك برأسه فغسله وصلى عليه، ثم انتقض عليه أهل خراسان، فقتلوه، وأرسلوا رأسه إلى عبد الملك سنة 72 هـ.] إلى حُمراندر من [ص 97] نسا [مدينة بخراسان، ينسب إليها النسائي صاحب السنن]، وهو رستاق قرية ففتحه، وأتاه صاحب نسا فصالحه على 300.000 درهم. ويقال: على احتمال الأرض من الخراج على أن لا يقتل أحدًا ولا يسبيه. وقدم بهمنة عظيم أبيورد [أَبِيوَرْد: مدينة بخراسان بين سرخس ونسا] على ابن عامر فصالحه على 400.000 درهم، ويقال وجه إليها ابن عامر عبد اللَّه بن خازم فصالح أهلها على 400.000 درهم، ووجَّه عبد اللَّه بن عامر عبد اللَّه بن خازم إلى سَرَخْس [17] فقاتلهم، ثم طلب زاذويه مرزبانها الصلح على تأمين مائة رجل، وأن يدفع إليه النساء، فصارت ابنته في سهم خازم، واتخذها وسماها مَيساء، وغلب ابن خازم على أرض سرخس، ويقال: إنه صالحه على أن يؤمن مائة نفس فسمَّى له المائة، ولم يسم نفسه فقتله ودخل سَرخس عنوة، ووجه ابن خازم من سرخس يزيد بن سالم مولى شريك بن الأعور إلى كيف وبينة ففتحهما. وأتى كنازتك مرزبان طوس ابن عامر فصالحه على طوس على 600.000، ووجَّه ابن عامر جيشًا إلى هراة عليه أوس ابن ثعلبة ويقال: خُليد بن عبد اللَّه الحنفي، فبلغ عظيم هراة ذلك فشخص إلى ابن عامر، وصالحه على هراة وبادغيس وبوشنج غير طاغون وباغون فإنه فتحهما عنوة، وكتب له ابن عامر: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. هذا ما أمر به عبد اللَّه بن عامر عظيم بوشنج وبادغيس. أمره بتقوى اللَّه ومناصحة المسلمين وإصلاح ما تحت يديه من الأرضين، وصالحه على هَراة. سهلها وجبلها على أن يؤدي من الجزية ما صالحه عليه، وأن يقسم ذلك على الأرضين عدلًا بينهم، فمن منع ما عليه فلا عهد له ولا ذمة. وكتب ربيع بن نهشل وجثم بن عامر" [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 60].
وأرسل مرزبان مرو الشاهجان يسأل الصلح، فوجَّه ابن عامر إلى مرو حاتم بن النعمان الباهلي، فصالحه على ألف ألف ومائتي ألف درهم. وكان في صلحهم أن يوسعوا للمسلمين في منازلهم وأن عليهم قسمة المال، وليس على المسلمين إلا قبض ذلك. وكانت مرو صلحًا كلها [ص 98] إلا قرية منها يقال لها: السنج، فإنها أخذت عنوة. ووجَّه عبد اللَّه ابن عامر الأحنف، وهو حصن من مرو الروذ وله رستاق عظيم يعرف برستاق الأحنف، ويدعى بشق الجرد. فحصر أهله، فصالحوه على 300,000. فقال الأحنف: أصالحكم على أن يدخل رجل منا القصر فيؤذن فيه ويقيم فيكم حتى أنصرف، فرضوا، وكان الصلح عن جميع الرستاق، ومضى الأحنف إلى مرو الروذ، فحصر أهلها، وقاتلوه قتالًا شديدًا، فهزمهم المسلمون، فاضطروهم إلى حصنهم، وكان المرزبان من ولد باذام صاحب اليمن أو ذا قرابة له، فكتب إلى الأحنف أنه دعاني إلى الصلح إسلام باذام، فصالحه على 600.000. ووجَّه الأحنف الأقرع بن حابس التميمي [هو الأقرع بن حابس بن عقال المجاشعي الدارمي التميمي، صحابي، من سادات العرب في الجاهلية، قدم على رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في وفد بني دارم من تميم، فأسلموا، وشهد حنينًا وفتح مكة والطائف، سكن المدينة، وكان من المؤلفة قلوبهم، ورحل إلى دومة الجندل في خلافة أبي بكر، وكان مع خالد بن الوليد في أكثر وقائعه حتى اليمامة، واستشهد بجوزجان سنة 31 هـ، ومن المؤرخين من يرى أن اسمه فراس، وأن الأقرع لقب له، لقرع كان برأسه، للاستزادة راجع: ابن عساكر ج 3/ص 86، ذيل المذيّل ص 32، خزانة الأدب للبغدادي ج 3/ص 397، عيون الأثر ج 2/ص 205.] في خيل، وقال: "يا بني تميم تحابوا وتباذلوا تعتدل أموركم، وابدأوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم". فسار الأقرع، فلقي العدو بالجوزجان [جَوْزَجان: اسم كورة واسعة من كور بلخ بين مرو والروذ وبلخ.] فكانت في المسلمين جولة ثم كرّوا فهزموهم، وفتحوا الجوزجان عنوة.
وفتح الأحنف الطالقان صلحًا، وفتح الفارياب، ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهي مدينة طخارا فصالحهم أهلها على 400.000، فاستعمل على بلخ أرسيد بن المتشمس، ثم سار إلى خوارزم، وهي من سقي النهر جميعًا ومدينتها شرقية فلم يقدر عليها فانصرف إلى بلخ وقد جبى أرسيد صلحها.
قال أبو عبيدة: فتح ابن عامر ما دون النهر، فلما بلغ أهل ما وراء النهر أمره طلبوا إليه أن يصالحهم ففعل. فيقال: إنه عبر النهر حتى أتى جميع مواضعه. وقيل بل أتوه وصالحوه، وبعث من قبض ذلك، فأتته الدواب، والوصفاء، والوصائف، والحرير، والثياب. ثم إنه أحرم شكرًا للَّه.
ولما تم لابن عامر هذا الفتح قال له الناس: ما فتح لأحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وخراسان. فقال: لا جرم لأجعلن شكري للَّه على ذلك أن أخرج محرمًا من موقفي [ص 99] هذا فأحرم بعمرة من نيسابور. وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم.
جميع هذه المدن والقرى التي مر ذكرها هي بخراسان. ولما كانت فارسية فقد يستغربها القارئ ويصعب عليه النطق بها، وقد اضطررت إلى ذكرها، لأن المسلمين فتحوها تحت قيادة عبد اللَّه بن عامر، وفتح أغلبها صلحًا، لأنهم لم يستطيعوا مقاومة المسلمين، وقد قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس.
فتح إصطخر
[فتوح البلدان البلاذري، الذهبي، تاريخ الإسلام ج 3/ص 379].
إصطخر: كورة وبلدة في بلاد فارس، وبها كثير من المدن والقرى، أشهرها البيضاء ومائتين ونيريز وأبرقوه ويزد وغيرها. وبها كانت خزائن الملوك قبل الإسلام. قيل: وفي جبالها معدن الحديد. وفي دارا بجرد إحدى قراها معدن الزئبق. وفي إصطخر وضع هيستاسب كتاب زرادشت نبي المجوس لما كانت في عظمتها.
وعلى ثلاثة أو أربعة فراسخ من ميان تجد آثار مدينة إصطخر الشهيرة في قديم الزمان باسم برسبوليس وهي مدينة قديمة كانت سابقًا دار سلطنة بلاد فارس.
لما جاء الإسلام كان أول من غزا بلاد فارس العلاء بن الحضرمي [هو العلاء بن عبد اللَّه الحضرمي، صحابي، من رجال الفتوح في صدر الإسلام، أصله من حضرموت، سكن أبوه مكة فَوُلد العلاء ونشأ فيها، توفي سنة 21 هـ، ولاَّه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ البحرين سنة 8 هـ، وأقرَّه أبو بكر ثم عمر، وهو الذي سير عرفجة بن هرثمة إلى شواطئ فارس سنة 14 هـ بالسفن، فكان أول من فتح جزيرة بأرض فارس في الإسلام، ويقال: إن العلاء أول مسلم ركب البحر للغزو. للاستزادة راجع: البدء والتاريخ ج 5/ص 183، تهذيب الأسماء ج 1/ص 280، الإصابة ترجمة 5644، ابن سعد ج 4/ص 333، جمهرة الأنساب ص 187، صفة الصفوة ج 1/ص 189، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 165، المحبّر تحت عنوان "رسل النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ إلى الملوك والأشراف] في خلافة عمر سنة 17 هجرية. سار بجيوشه بحرًا وخرجوا بإصطخر فقاتلهم أهلها قتالًا شديدًا فانجلى القتال عن هزيمة أهل إصطخر. ثم دخل أبو موسى الأشعري بلاد فارس في نفس السنة، ودفع لواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي لما فرق الألوية على رجاله فلم يتيسر الفتح إلا سنة 18 هـ، وقيل بعد ذلك. قال ابن الأثير [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 439]: وقصد عثمان بن أبي العاص الثقفي إصطخر فالتقى هو وأهلها بجور [ص 100] فاقتتلوا، وانهزم الفرس وفتح المسلمون جور، ثم إصطخر وقتلوا الكثير، وفر بعضهم فدعا عثمان إلى الذمة والجزية، فأجابه الهربذ إليها فتراجعوا، وكان عثمان قد جمع الغنائم فبعث بخمسها إلى عمر، وقسم الباقي في الناس.
ثم عصت إصطخر فعاد إليها عثمان سنة 27 هـ، وفتحها ثانية. ثم انتفض الفرس فواقعهم عبيد اللَّه بن معمر على باب إصطخر سنة 29 هـ فقتل وانهزم المسلمون، فبلغ الخبر عبد اللَّه بن عامر فسار إليهم والتقوا بإصطخر، فانهزم الفرس، وقتل منهم كثيرون، وفتحت إصطخر عنوة. وأتى دارا بجرد وقد غدر أهلها ففتحها، وصار إلى جور، فانتفضت إصطخر فلم يرجع إليها إلا بعد أن فتح جور ففتحها أيضًا عنوة بعد أن حاصرها واشتد القتال عليها ورماها بالمناجيق، وقتل من أهلها خلق كثير، وأفنى أكثر أهل البيوتات ووجوه الأساودة كانوا قد لجأوا إليها، والذي استخلفه على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي فبنى مسجدها.
قال البلاذري في فتوح البلدان: "لما فرغ عبد اللَّه بن عامر من فتح جور، كرَّ على أهل إصطخر وفتحها عنوة بعد قتال شديد، ورمى بالمناجيق، وقتل بها من الأعاجم 40.000" إلخ.
فتح كِرْمَان
[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 22]:
لما سار ابن عامر إلى فارس وجَّه مجاشع بن مسعود السلمي [هو مجاشع بن مسعود بن ثعلبة السلمي، صحابي من القادة الشجعان استخلفه المغيرة بن شعبة على البصرة في خلافة عمر، غزا كابل وصالحه صاحبها الأصبهجد، وقيل: كان على يديه فتح حصن أبرويز بفارس، وكان يوم الجمل مع عائشة أميرًا على بني سليم، فقتل فيه سنة 36 هـ، قبل الوقعة ودفن بداره في بني سدوس بالبصرة، كان من الكرماء. للاستزادة راجع: ذكر أخبار أصبهان ج 1/ص 70، الإصابة ترجمة 7723، تهذيب التهذيب ج 10/ص 38، الجمع بين رجال الصحيحين ج 2/ص 515، معجم ما استعجم 1108، العقد الفريد ج 2/ص 66] إلى كرمان[كِرْمَان: وتسمى قديمًا كرمانيا، وهي مقاطعة من بلاد فارس بالجنوب الشرقي] وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح بيمنت عنوة، واستبقى أهلها وأعطاهم أمانًا، وبنى قصرًا يعرف بقصر مجاشع. وفتح بروخروة، وأتى الشيرجان وهي مدينة كرمان، وأقام عليها أيامًا يسيرة، وأهلها متحصِّنون، وقد خرجت لهم خيل فقاتلهم ففتحها عنوة، ثم إن كثيرًا من أهلها جلوا عنها وفتح [ص 101] جِيْرَفْت [جِيرَفْت: مدينة بكِرْمان من أعيان مدنها وأنزهها] عنوة، وسار في كرمان فدوَّخ أهلها وأتى القُفص وتجمع له بهرُمور خلق كثير من الأعاجم فقاتلهم فظفر بهم وظهر عليهم. وهرب كثير من أهل كرمان فركبوا البحر، ولحق بعضهم بمكران، وأتى بعضهم سجستان، فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم فعمروها وأدوا العشر فيها، واحتفروا القنوات في مواضع منها.
فتح سجستان وكابل
[سجستان: معرب سيستان، وكانت قديمًا تسمَّى: ساقستان، أي بلاد الساقة، وهي ولاية بالجنوب الغربي من أفغانستان يتبعها قسم داخل حدود بلاد العجم]:
فتحت سجستان في أيام عمر بن الخطاب، ثم إن أهلها نقضوا عهدهم. فلما توجَّه ابن عامر إلى خراسان سير إليها من كرمان الربيع بن زياد الحارثي [هو أخو المهاجر بن زياد وهو من قال عنه عمر بن الخطاب: "ما صَدَقني أحد منذ استخلفت كما صَدَقني الربيع بن زياد". للاستزادة راجع: أسد الغابة ج 2/ص 207، تاريخ الطبري ج 4/ص 183، الإصابة ج 1/ص 80، الكامل في التاريخ/ الفهارس، جمهرة أنساب العرب ص 391، تهذيب التهذيب ج 3/ص 244، حياة الصحابة ج 2/ص 168.
]، فأتى حصن زالق فأغار على أهله في يوم مهرجان فأخذ دهقانه فافتدى نفسه بأن ركز عنزةً، ثم غمرها ذهبًا وفضة، وصالح الدهقان على حقن دمه وصالحه على صلح أهل فارس، ثم أتى قرية يقال لها كَركويه [كركويه: مدينة من نواحي سجستان] على خمسة أميال من زالق فصالحوه على غير قتال، ثم أتى زالق وأخذ الأدلاَّء منها إلى زَرَنج [زرنج: مدينة هي قصبة سجستان]، وسار حتى نزل الهندمند، وأتى زوشت وهي من زرنج على ثلثي ميل فخرج إليه أهلها فقاتلوه قتالًا شديدًا، وأصيب رجال من المسلمين، ثم كرَّ المسلمون وهزموهم حتى اضطروهم إلى المدينة بعد أن قتلوا منهم مقتلة عظيمة [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 22]، ثم أتى الربيع ناشروذ [ناشروذ: قرية بسجستان] قرية فقاتل أهلها وظفر بهم، ثم مضى إلى شرواذ [شرواذ: قرية بسجستان] قرية فغلب عليها، ثم حاصر مدينة زرنج بعد أن قاتل أهلها، فبعث إليه أبرْويز مرزبانها يستأمنه ليصالحه، فأمر بجسد من أجساد القتلى، فوضع له، فجلس عليه واتكأ على آخر، وأجلس أصحابه على أجساد القتلى مثله. وكان الربيع آدم أفوه طويلًا. [ص 102] فلما رآه المرزبان هاله فصالحه على ألف وَصِيف مع كل وَصِيف[الوَصِيف: الخادم، وجمعه وُصَفَاء] جام من ذهب، ودخل المسلمون المدينة، ثم أتى سناروذ [سناروذ: اسم لنهر سجستان يأخذ من نهر هند مند فيجري على قدر فرسخ من سجستان فيتفرع منه أنهر يسقي الرساتيق وتجري فيه السفن أيام المد. ورد في المتن: "هو وادٍ" وهذا خطأ اقتضى تصويبه] وهو وادٍ فعبره وأتى القريتين، وهناك مربط فرس رُسْتَم [رُسْتَم: بضم الراء وفتح التاء، هو رُسْتَم بن الفرخزاد، ورُسْتَم لفظة فارسية، معناها: نَجَوْتُ، ويقال إن أمه تعذَّبت بولادته لِشِدَة تَعَسُّرها، وعندما وضعته صاحت: رُسْتَم أي نَجَوْتُ، فسمي بهذا الاسم. قتلت أَزْرميدُخت والده، ورُسْتَم من القواد المشهورين في فارس، هزمه سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية] فقاتله أهلها فظفر بهم، ثم عاد إلى زرنج وأقام بها سنتين، ثم أتى ابن عامر واستخلف بها رجلًا من بني الحارث بن كعب فأخرجوه وأغلقوها. وكانت ولاية الربيع سنتين ونصفًا، وسبى في ولايته هذه 40.000 رأس، وكان كاتبه الحسن البصري[هو الحسن بن يَسَار البصري، أبو سعيد، تابعي، كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه، هو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النسَّاك، ولد بالمدينة سنة 21 هـ، شبَّ في كنف علي بن أبي طالب، استكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، سكن البصرة، وعظمت هيبته في القلوب، فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم، لا يخاف في اللَّه لومة لائم، قال فيه الغزالي: كان الحسن البصري أشبه الناس كلامًا بكلام الأنبياء، وأقربهم هديًا من الصحابة، كان غاية في الفصاحة، تتصبَّب الحكمة من فيه، له مع الحجاج بن يوسف مواقف، توفي في البصرة سنة 110 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 2/ص 110، وفيات الأعيان ج 1/ص 115، ميزان الاعتدال ج 1/ص 254، حلية الأولياء ج 2/ص 131، ذيل المذيل ص 93، أمالي المرتضى ج 1/ص 106، الأزهرية ج 3/ص 725]، ثم ولى ابن عامر عبد الرحمن بن سَمُرَة بن حبيب بن عبد شمس[هو عبد الرحمن بن سَمُرَة بن حبيب بن عبد شمس القرشي، أبو سعيد، صحابي، من القادة الولاة، أسلم يوم الفتح، شهد غزوة مؤتة، سكن البصرة، افتتح سجستان، وغزا خراسان، ثم عاد إلى البصرة فتوفي فيها سنة 50 هـ، كان اسمه في الجاهلية: "عبد كلال"، سماه النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عبد الرحمن. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 6/ص 190، تهذيب الكمال ج 2/ص 792، تقريب التهذيب ج 1/ص 483، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 136، الكاشف ج 2/ص 167، تاريخ البخاري الكبير ج 5/ص 242، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 96، الجمع بين رجال الصحيحين ص 282، دول الإسلام للذهبي ج 1/ص 26، نسب قريش ص 150، الجرح والتعديل ج 5/ص 241، الثقات ج 3/ص 249، أسد الغابة ج 3/ص 454، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 348، الإصابة ج 4/ص 310، الاستيعاب ج 2/ص 835، سير الأعلام ج 2/ص 571، أسماء الصحابة الرواة ترجمة ص 149] سجستان، فأتى زرنج فحصر مرزبانها في قصره في [ص 103] يوم عيد لهم فصالحه على ألفي ألف درهم، وألفي وصيف. وغلب ابن سَمُرَة على ما بين زرنج وكَشّ [الكَشّ: قرية على ثلاثة فراسخ من جرجان على الجبل] من ناحية الهند، وغلب من ناحية طريق الرُّخَّج [الزُّخَّج: كورة من أعمال سجستان، ومدينة من نواحي كابل] على ما بينه وبين بلاد الداور [ورد في الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج 3/ص 23: "الداون" ولعل ما ورد في متن هذا الكتاب خطأ على الأرجح، والصواب هو "الداون" وليس "الداور".]، فلما انتهى إلى بلاد الداور حصرهم في جبل الزور[ورد في الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج 3/ص 26: "الزوز" ولعل ما ورد في متن هذا الكتاب خطأ على الأرجح، والصواب هو "الزوز" وليس "الزور".]، ثم صالحهم، فكانت عدة من معه من المسلمين 8000 فأصاب كل رجل منهم 4000 ودخل على الزور وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان فقطع يده وأخذ الياقوتتين، ثم قال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر، وإنما أردت أن أعلمك أنه لا يضر ولا ينفع. وفتح كابل وزابلستان. وأتى عبد الرحمن زرنج فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر اليشكريّ، وانصرف من سجستان، فأخرج أهلها أمير بن أحمر وامتنعوا.
وفاة أبي سفيان
[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 24] (سنة 31 هـ/ 652 م):
أبو سفيان صخر بن حرب وهو والد يزيد ومعاوية، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أشراف قريش. وكان تاجرًا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانًا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء التي تسمى العقاب. وإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعتها بيد الرئيس. وقيل كان أفضل قريش رأيًا في الجاهلية ثلاثة: عتبة، وأبو جهل، وأبو سفيان، فلما أتى الإسلام أدبر في الرأي. وهو الذي قاد قريشًا كلها يوم أحد، ولم يقدها قبل ذلك رجل واحد إلا يوم ذاك فكيف قادها المطلب!. وكان أبو سفيان صديق العباس، وأسلم ليلة الفتح، وأعطاه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية كل واحد مثله. وشهد الطائف مع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ففقئت عينه يومئذ، وفقئت الأخرى يوم اليرموك. وشهد اليرموك تحت راية ابنه يزيد يقاتل ويقول: "يا نصر اللَّه اقترب"، وكان يقف على الكراديس يقص ويقول: "اللَّه، اللَّه، إنكم دارة العرب وأنصار الإسلام. وإنهم دارة الروم وأنصار [ص 104] المشركين. اللَّهم هذا يوم من أيامك. اللَّهم أنزل نصرك على عبادك".
وروي أنه لما أسلم ورأى المسلمين وكثرتهم قال للعباس: "لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا" فقال له العباس: "إنها النبوة". قال: "فنعم". وكان من المؤلفة قلوبهم وحسن إسلامه.
توفي سنة 31 هـ، وصلى عليه عثمان، وكان عمره 88 سنة.
غزوة بلنجرد
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 627، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 25] (سنة 32 هـ/ 653 م): بلنجرد: مدينة الخزَر خلف باب الأبواب.
ذكرنا في كتاب "الفاروق عمر بن الخطاب" أن عبد الرحمن بن ربيعة [هو عبد الرحمن بن ربيعة بن يزيد، الباهلي، والٍ من الصحابة، كان يُلقَّب: ذا النور، ولاَّه عمر قضاء الجيش الذي وجَّهه إلى القادسية، وعهد إليه بقسمة الغنائم، ثم ولاَّه الباب، وقتال الترك والخزرج، استمر بولايته هذه إلى أن استشهد في بعض وقائعه ببنجر. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة ص 5110، وابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3، ياقوت ، معجم البلدان "بنجر] زحف بجيشه (يريد بلنجرد) [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 627، وابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 155، ذكر "بلنجرد" باسم "بلنجر".] فخافهم الترك في أول الأمر وقالوا: إن هؤلاء أي العرب ملائكة لا يعمل فيهم السلاح. فاتفق أن تركيًا اختفى في غيضة [غيضة: أجمة. [القاموس المحيط، مادة: غيض].] ورشق مسلمًا بسهم فقتله. فنادى في قومه أن هؤلاء يموتون، كما تموتون، فلا تخافوهم. فاجترأوا عليهم، وأوقعوا بهم حتى استشهد عبد الرحمن بن ربيعة، وأخذ الراية أخوه، ولم يزل يقاتل حتى أمكنه دفن أخيه بنواحي بلنجرد، ورجع بقية المسلمين على طريق جيلان.
وفي سنة 32 هـ انتصرت الخزر والترك على المسلمين، وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا [تذامروا: تحاضّوا على القتال وتلاوموا. [القاموس المحيط، مادة: تذَّمر].
] وقالوا: كنا لا يُقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة "العربية" فصرنا لا نقوم لها.
لما قتل عبد الرحمن بن ربيعة وانهزم المسلمون افترقوا فرقتين فرقة نحو الباب، فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن، كان قد سيره سعيد بن العاص مددًا للمسلمين بأمر عثمان، فلما لقوه نجوا معه. وفرقة نحو جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي [هو سلمان الفارسي، صحابي، مقدّم من مجوس أصبهان، عاش عمرًا طويلًا، توفي سنة 36 هـ، اختلفوا فيما كان يسمى به في بلاده، قالوا: نشأ في قرية جيلان، فرحل إلى الشام، فالموصل، فنصّيبين، فعمورية، وقرأ كتب الفارسية، والرومية، واليهودية، قصد بلاد العرب فلقيه قوم من بني كلب فاستخدموه، ثم استعبدوه وباعوه، فاشتراه رجل من قريظة وجاء به إلى المدينة، فسمع بخبر النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فقصده وسمع كلامه وأسلم، كان قوي الجسم، صحيح الرأي، عالمًا بالشرائع وغيرها، وهو الذي دلَّ المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب، جُعل أميرًا على المدائن، فأقام فيها حتى وفاته. للاستزادة راجع: أخبار سلمان وزهده وفضائله، لابن بابويه القمي، طبقات ابن سعد ج 4/ص 111، تهذيب ابن عساكر ج 6/ص 300، الإصابة ترجمة 3350، حلية الأولياء ج 1/ص 187، صفة الصفوة ج 1/ص 125، المسعودي ج 1/ص 210، محاسن أصفهان 25، الذريعة ج 1/ص 85] وأبو [ص 105] هريرة [هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، الملقب بأبي هريرة، ولد سنة 21 ق. هـ صحابي، كان أكثر الصحابة حفظًا للحديث ورواية له، نشأ يتيمًا ضعيفًا في الجاهلية، قدم المدينة ورسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بخيبر، أسلم سنة 7 هـ، لزم صحبة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ روى عنه 5374 حديثًا، نقلها عن أبي هريرة أكثر من 800 رجل بين صحابي وتابعي، ولي إمرة المدينة مرة، لما صارت الخلافة إلى عمر استعمله على البحرين، ثم رآه ليِّن العريكة مشغولًا بالعبادة، فعزله، وأراده بعد زمن على العمل فأبى، توفي سنة 59 هـ في المدينة، كان يفتي. للاستزادة راجع: تهذيب الأسماء واللغات ج 2/ص 270، الإصابة ترجمة 1179، الجواهر المضيئة ج 2/ص 418، صفة الصفوة ج 1/ص 285، حلية الأولياء ج 1/ص 376، ذيل المذيل ص 111، حسن الصحابة ص 166، الذريعة ج 7/ص 114، تهذيب الكمال ج 2/ص 795، تهذيب التهذيب ج 6/ص 199، تقريب التهذيب ج 1/ص 485، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 397، الكاشف ج 2/ص 169، الجرح والتعديل ج 5/ص 246، أسد الغابة ج 6/ص 318، طبقات ابن سعد ج 4/ص 52]، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي [هو يزيد بن معاوية النخعي، فارس من أشراف العرب من صدر الإسلام، يمني الأصل، ممن نزل بالكوفة، كان من أصحاب عبد اللَّه بن مسعود، له ذكر في البخاري، حفر غزوة بلنجر، قاتل الترك والخزر قتالًا شديدًا، فأصابه حجر من حصن بلنجر هشم رأسه فتوفي سنة 32 هـ. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3/ص 50، تهذيب الكمال ج 3/ص 54، تهذيب التهذيب ج 11/ص 360، تقريب التهذيب ج 2/ص 371، خلاصة تهذيب الكمال ج 3/ص 177، الكاشف ج 3/ص 286، تاريخ البخاري الكبير ج 8/ص 355، الجرح والتعديل ج 9/ص 1216، تاريخ الثقات ص 481، الثقات ج 5/ص 545، معرفة الثقات 2036، طبقات ابن سعد ج 9/ص 209]، وعلقمة بن قيس [هو علقمة بن قيس بن عبد اللَّه بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهل النخعي الهمداني أبو شبل، تابعي، كان فقيه العراق، يشبه ابن مسعود في هديه، وسمته، وفضله، ولد في حياة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وروى الحديث عن الصحابة، غزا خراسان وأقام بخوارزم سنتين، وبمرو مدة، سكن الكوفة وتوفي فيها سنة 62 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 7/ص 276، تذكرة الحفاظ ج 1/ص 45، حلية الأولياء ج 2/ص 98، تاريخ بغداد ج 12/ص 296، تهذيب الكمال ج 2/ص 953، تقريب التهذيب ج 2/ص 31، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 241، الكاشف ج 2/ص 277، تاريخ البخاري الكبير ج 7/ص 41، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 123، الجرح والتعديل ج 6/ص 2258، تاريخ الثقات ص 339، تاريخ بغداد ج 12/ص 696]، ومعضد [ص 106] الشيباني، وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وخالد بن ربيعة، والحلحان ابن دري، والقرثع في خباء، فكانوا متجاورين في ذلك العسكر. وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب. وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه أبيض: ما أحسن حمرة الدماء على بياضك، ورأى يزيد بن معاوية في منامه أن غزالًا جيء به لم ير أحسن منه فلف في ملحفة، ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه، عليه أربعة نفر قعودًا، فلما استيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ، فدفن في قبر على الصورة التي رأى. وقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب به رأسي، ففعل، فأتى برج بلنجرد الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم. وأتاه حجر عرّادة [عرّادة: آلة تستخدم في الحرب لدك الحصون، أصغر من المنجنيق، وترمي بالحجارة البعيدة المرمى، جمعها عرّادات. [القاموس المحيط، مادة: عرد].
] ففضخ هامته فأخذه أصحابه، فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله، فلا يخرج أثر الدم منه. وكان يشهد فيه الجمعة، ويقول: يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قباءه كما اشتهى ثم قتل، وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب. فبلغ الخبر بذلك إلى عثمان فقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، انتكث أهل الكوفة. اللَّهم تب عليهم وأقبل بهم. وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو فسيره، فلقي المهزومين على ما تقدم، فنجاهم اللَّه به. فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سلمان بن ربيعة على الباب واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان وأمدَّهم عثمان بأهل الشام. عليهم حبيب بن مسلمة فتأمر عليه سلمان وأبى حبيب حتى قال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان. فقال الكوفيون: إذن، واللَّه نضرب حبيبًا ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم[وقال أوس بن مغراء في ذلك:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم *** وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا *** وهذا أمير في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته *** ليالي نرمي كل ثغر وننكل
[وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة، فكان ذلك أول [ص 107] خلاف وقع بين أهل الكوفة، وغزا حذيفة ثلاث غزوات، فقتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان. فقال حذيفة بن اليمان: "اللَّهم العن قتلته وشتَّامه، اللَّهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلمًا إلى الفتنة، اللَّهم لا تمتهم إلا بالسيوف".
خروج الترك مع ملكهم قارن
[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 25] (سنة 32 هـ/ 653 م): خرجت جموع من الترك من ناحية خراسان في 40.000 عليهم قارن من ملوكهم، فانتهى إلى الطبسين واجتمع له أهل باذغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ ابن الهيثم السلمي استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرمًا، فدوَّخ جهتها، وكان معه ابن عمه عبد اللَّه بن خازم فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهدًا إذا خرج منها قيس ففعل. فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخرج من البلاد، فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها، فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر. وقيل: أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمده، فلما خرج أشهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس، وسار ابن خازم للقاء الترك في أربعة آلاف، وأمر الناس فحملوا الودك [الودك: الدسم من اللحم، والشحم، وهو ما يتحلّب منهما. [القاموس المحيط، مادة: ودك].
[فلما قرب من قارن أمر الناس أن يربط كل رجل منهم على زج رمحه خرقة، أو قطنًا، ثم يكثروا دهنه، ثم سار حتى أمسى فقدم مقدمته ستمائة، ثم أتبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النار في أطراف الرماح، فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل، فناوشوهم وهاج الناس على دهش، وكانوا آمنين من البيات، ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنة وميسرة تتقدم وتتأخر، وتنخفض وترتفع، فهالهم ذلك، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثم غشيهم ابن خازم وأكثروا القتل في المشركين، وقتل ملكهم قارن فانهزم المشركون واتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاءوا وأصابوا سبيًا كثيرًا وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي وأقره على خراسان.
هذه الخدعة الحربية التي ابتدعها ابن خازم بإشعال أطراف الرماح ومداهمة العدو ليلًا هي أول خدعة سمعنا بها في التاريخ الإسلامي، وقد فزع العدو لرؤيتها وهالهم الأمر، وبذلك انتصر المسلمون على الأتراك في هذه الموقعة. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:12 am | |
| عثمان بن عفان عثمان بن عفان ذو النورين ( 10 من 15 ) السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي الفصل الخامس: الفتنة
تسيير أهل الفتنة في العراق إلى معاوية في الشام
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 30]:
اختار سعيد بن العاص والي الكوفة بعد الوليد بن عقبة وجوه الناس، وأهل القادسية، وقراء أهل البصرة دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس الناس فإنه يدخل عليه كل أحد. فجلس للناس يومًا فدخلوا عليه فبينا هم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة بن عبيد اللَّه! [هو طلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان التيمي، القرشي المدني، أبو محمد، صحابي، شجاع، من الأجواد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، ولد سنة 28 هـ، قال ابن عساكر: كان من دهاة قريش ومن علمائهم، وكان يقال له ولأبي بكر: القرينان، وذلك لأن نوفل بن حارث وكان أشد قريش رأى طلحة وقد أسلم خارجًا مع أبي بكر من عند النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فأمسكهما وشدَّهما في حبل. ويقال له: طلحة الجود، وطلحة الخير، وطلحة الفياض، وكل ذلك لقبه به رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في مناسبات مختلفة، ودعاه مرة: الصبيح المليح الفصيح. شهد أُحدًا وثبت مع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وبايعه على الموت، وأصيب بأربعة وعشرين جرحًا، وسَلِمَ، شهد الخندق وسائر المشاهد. كانت له تجارة وافرة مع العراق، ولم يكن يدع أحدًا من بني تيم عائلًا إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، ووفى دينه، قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة سنة 36 هـ، ودفن في البصرة. للاستزادة راجع: ابن سعد ج 3/ص 152، تهذيب التهذيب ج 5/ص 20، البدء والتاريخ ج 5/ص 82، الجمع بين رجال الصحيحين ص 230، غاية النهاية ج 1/ص 342، الرياض النضرة ج 2/ص 249، صفة الصفوة ج 1/ص 130، حلية الأولياء ج 1/ص 87، ذيل المذيل ص 11، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 71، المحبّر ص 355.
]. فقال سعيد بن العاص: :إن من له مثل النشاستج [نشاستج: ضيعة بالكوفة كانت لطلحة بن عبيد اللَّه التميمي. أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكانت عظيمة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بمال كان له بخيبر وعمرها فعظم دخلها. قال الواقدي: أول من أقطع بالعراق عثمان بن عفان ـ رضي اللَّه عنه ـ قطائع مما كان من صوافي آل كسرى ومما جلا عنه أهله فقطع لطلحة بن عبيد اللَّه النشاستج. وقيل بل أعطاه إياها عوضًا عن مال كان له بحضرموت.] لحقيق أن يكون جوادًا. واللَّه لو أن ليِّ مثله لأعاشكم اللَّه عيشًا رغدًا" [ص 128].
فقال عبد الرحمن بن خنيس، وهو حدث: واللَّه لوددت أن هذا الملطاط [قال ابن النجار في كتاب الكوفة: وكان يقال لظهر الكوفة: اللسان، وما ولى الفرات منه الملطاط.] لك يعني ما كان لكسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة.
قالوا: فضَّ اللَّه فاك. واللَّه لقد هممنا بك. فقال خنيس: غلام فلا تجاوزوه. فقالوا: يتمنى له من سوادنا. قال: ويتمنى لكم أضعافه. قالوا: لا يتمنى لنا ولا له. قال: ما هذا بكم. قالوا: أنت واللَّه أمرته بها. فثار إليه الأشتر، وابن ذي الحبكة، وجندب، وصعصعة، وابن الكواء، وكميل، وعمير بن ضابئ فأخذوه. فذهب أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرًا.
فسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وفيهم طليحة [هو طُلَيْحة بن خويلد الأسدي، من أسد خزيمة، متنبّئ، شجاع، من الفصحاء، متوفى سنة 21 هـ. يقال له: طُلَيْحة الكذاب، كان من أشجع العرب، يُعَدُّ بألف فارس كما يقول النووي، قدم على النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في وفد بني أسد سنة 9 هـ، وأسلموا، ولما رجعوا ارتد طُلَيْحة، وادَّعى النبوة في حياة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فوجَّه إليه ضرار بن الأزور، فضربه ضرار بسيف يريد قتله، فنبا السيف، فشاع بين الناس أن السلاح لا يؤثر فيه. ومات النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فكثر أتباع طُلَيْحة من أسد وغطفان وطيئ وكان يقول: إن جبريل يأتيه، وتلا على الناس أسجاعًا أمرهم فيها بترك السجود في الصلاة وكانت رايته حمراء. طمع بامتلاك المدينة، فهاجر بعض أشياعه، فردهم أهلها، غزاه أبو بكر وسيَّر إليه خالد بن الوليد فانهزم طُلَيْحة وفرَّ إلى الشام، ثم أسلم بعد أن أسلمت أسد وغطفان كافة، وفد على عمر وبايعه في المدينة، وخرج إلى العراق، فَحَسن بلاؤه في الفتوح، واستشهد بنهاوند. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ ج 2 أحداث سنة 11، معجم البلدان مادة: بزاخة، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 300، تاريخ الخميس ج 2/ص 187، الإصابة ترجمة 4283، تهذيب الأسماء واللغات ج 1/ص 201.]، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل، فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال: أيها الناس. قوم تنازعوا وتهاووا وقد رزق اللَّه العافية. ثم قعدوا وعادوا في حديثهم وتراجعوا. وأفاق الرجلان فقال: أبكما حياة؟ قالا: قتلتنا غاشيتك [غاشيتك: أي الذين يترددون عليك. [القاموس المحيط، مادة: غشي].
] قال: لا يغشوني واللَّه أبدًا فاحفظا عليَّ ألسنتكما ولا تجرَّئا عليَّ الناس، ففعلا [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 31].
ولما انقطع أولئك النفر من ذلك، قعدوا في بيوتهم وأقبلوا على الإذاعة حتى لامه أهل [ص 129] الكوفة في أمرهم. فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن أحرك شيئًا فمن أراد أن يحرك شيئًا فليحركه، إن هؤلاء النفر لما قعدوا في بيوتهم تكلموا في حق الخليفة عثمان وشتموه.
وقيل: بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر [يسمر: يتحدَّث ليلًا. [القاموس المحيط، مادة: سمر].] عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب والأسود بن يزيد [هو الأسود بن يزيد بن قيس، النخعي، الكوفي، أبو عمرو، المتوفى سنة 75 هـ، تابعي فقيه من الحفاظ، كان عالم الكوفة في عصره، ثقة، مكثر. للاستزادة راجع: تذكرة الحُفَّاظ ج 1/ص 85، حلية الأولياء ج 2/ص 108، تهذيب الكمال ج 1/ص 301، تهذيب التهذيب ج 1/ص 66، تقريب التهذيب ج 1/ص 178، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 188، الكاشف ج 1/ص 200، تاريخ البخاري الكبير ج 1/ص 105، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 207، الجرح والتعديل ج 2/ص 178، الثقات ج 4/ص 310، الوافي بالوفيات ج 9/ص 222، طبقات الحفاظ ص 125، شذرات الذهب ج 1/ص 180، سير الأعلام ج 4/ص 118، البداية والنهاية ج 9/ص 205، نسيم الرياض ج 2/ص 236، أعيان الشيعة ج 3/ص 287، طبقات ابن سعد ج 9/ص 188.]، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر [هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي، المعروف بالأشتر، أمير من كبار الشجعان، كان رئيس قومه، أدرك الإسلام، أول من عرف عنه أنه حضر خطبة عمر في الجابية، سكن الكوفة، وكان له نسل فيها، كان ممن ألَّبَ على عثمان وحضر حصره في المدينة، شهد يوم الجمل، وأيام صفِّين مع علي، وولاَّه على مصر فقصدها، فمات في الطريق سنة 37 هـ، فقال علي: رحم اللَّه مالكًا، فلقد كان لي كما كنت لرسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وله شعر جيد، يُعد من الشجعان الأجواد، العلماء الفصحاء، الفصحاء. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 8343، التهذيب ج 10/ص 11، الولاة والقضاة 23، سمط الآلي 277، المؤتلف والمختلف 28، المرزباني 362، التبريزي ج 1/ص 75، دائرة المعارف الإسلامية ج 2/ص 210، المحبّر 233.
] وغيرهم. فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان قريش فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه اللَّه علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك، وتكلم القوم معه. فقال عبد الرحمن الأسدي وكان على شرطة سعيد ـ: أتردون على الأمير مقالته؟ وأغلظ عليهم. فقال الأشتر: مَنْ ههنا؟ لا يفوتنكم الرجل، فوثبوا عليه، فوطأوه وطًا شديدًا حتى غشي عليه. ثم جرّوه برجله فنضح بماء فأفاق. فقال: قتلتني من انتخبت. فقال: واللَّه لا يسمر عندي أحد أبدًا فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدًا. واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم.
ومن هنا يتضح أن الفتنة قد بلغت عندئذٍ حدًا عظيمًا في الكوفة فضعف مركز الوالي، ولم [ص 130] يقدر أن يؤدبهم، حتى اجترأوا أن يضربوا من رد عليهم ضربًا مبرحًا من غير أن يستطيع أن يبدي حراكًا ولما منع الاجتماع أخذوا يشتمونه ويشتمون الخليفة.
كتب أشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية. وكتب عثمان إلى معاوية: "إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرًا خلقوا للفتنة فرعهم وقم عليهم فإن آنست منهم رشدًا فاقبل منهم، وإن أعيوك فاردد عليهم."
فلما قدموا على معاوية رحب بهم، وأنزلهم كنيسة تسمى "مريم"، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل يتغدى ويتعشى معهم فقال لهم يومًا:
"إنكم قوم من العرب، لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم. وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا، وإن قريشًا لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم، إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة فلا تسدوا عن جنتكم. وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة. واللَّه لتنتهن أو ليبتلينكم اللَّه بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر، لم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعيَّة في حياتكم وبعد موتكم".
فقال رجل من القوم، وهو صعصعة:
"أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا. وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اختُرقت خُلص إلينا".
فقال معاوية: "عرفتكم الآن. علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلًا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكرك به وتذكرني الجاهلية، وقد وعظتك، وتزعم لما يجنك أنه يخترق إليك ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة. أخزى اللَّه أقوامًا أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم افقهوا ولا أظنكم تفقهون. إن قريشًا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا باللَّه عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا، ومحضهم أنسابًا وأعظمهم أخطارًا وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضًا إلا باللَّه الذي لا يُستذل من أعز، ولا يوضع من رفع، فبوَّأهم حَرَمًا آمنًا يُتَخَطف الناس من حولهم. هل تعرفون عربًا أو عجمًا أو سودًا أو حمرًا إلا قد أصابهم الدهر في بلدهم وحُرْمتهم بدولة إلا ما كان من قريش فإنه لم يُردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل اللَّه خده الأسفل حتى أراد اللَّه أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارهم قريشًا، ثم بُنيَ هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم. ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان اللَّه يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم باللَّه، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم. أف لك ولأصحابك. ولو أن [ص 131] متكلمًا غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت. فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، وأنتها نبتًا، وأعمقها واديًا، وأعرفها بالشر، وألأمها جيرانًا. لم يسكنها شريف قط، ولا وضيع إلا سُبَ بها وكانت عليه هُجْنَة [الهُجْنَة من الكلام: ما يلزمك منه العيب، تقول: "لا تفعل كذا فيكون عليك هجنة".] ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا، وألأمهم أصهارًا، نُزَّاع الأمم، وأنتم جيران الخط وفَعَلة فارس حتى أصابتكم دعوة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير في عمان لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فأنت شر قومك حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين اللَّه عِوَجًا وتنزع إلى اللامة والذلة ولا يضع ذلك قريشًا، ولن يضرهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم. إن الشيطان عنكم غير غافل. قد عرفكم بالشر من بين أمتكم فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاه اللَّه ولا أمرًا أراده اللَّه، ولا تدركون بالشر أمرًا إلا فتح عليكم شرًا منه وأخزى".
أرسل هؤلاء النفر الذين أحدثوا الشغب واللغط في الكوفة، وعابوا على سعيد بن العاص وعثمان إلى معاوية بالشام. وفي نظرنا أن سبب هذه الفتنة كما أورده الطبري وابن الأثير [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 30.] تافه لا يدعو إلى كل ما حدث. فقد ذكر أن عبد الرحمن بن خنيس وهو شاب قال: "واللَّه لوددت أن هذا الملطاط لك" يعني لسعيد أي ما كان لكسرى على جانب الفرات. فهذا الذي أثار ثائرتهم. شاب يتمنى أن تكون لسعيد بن العاص هذه الناحية من الفرات حتى يجود بمثل ما كان يجود به طلحة بن عبيد اللَّه. وقد كان سعيد كما ذكرنا في ترجمته كريمًا يقيم الولائم، ويتصدق على المصلين. غاظ هؤلاء القوم الذين كانوا يحضرون مجلس سعيد، وكان يخصهم بسمره أن يتمنى هذا الشاب ذلك. ولو أنه مجرد تمنٍ ومع هذا تعدوا عليه وضربوه وضربوا أباه. وقد توسَّل إليهم الوالي بجلالة قدره أن يتركوهما فلم يفد فأشبعوهما ضربًا. وكل ما قدر عليه سعيد أنه منع أن يتسامروا عنده بعد ذلك.
وذُكر سبب غير ذلك وهو قول سعيد: (إنما هذا السواد بستان قريش). فأغلظوا عليه القول، فغضب صاحب شرطته [هو عبد الرحمن الأسدي] ولامهم على ما كان منهم، فأوسعوه ضربًا حتى غشي عليه. فلا بد أن هؤلاء الذين قربهم سعيد كانوا يحقدون عليه ويتحيَّنون الفرص للانتقام منه، لكنه حسب حسابهم، ولم يعاقبهم بنفسه على تهوّرهم واعتدائهم ومخالفتهم أمره خشية اتساع الخرق واشتداد الفتنة، فكتب إلى الخليفة في شأنهم وفوَّض إليه الأمر. فلما ذهبوا إلى معاوية وهو كما [ص 132] نعلم قويٌّ في حكومته، ماهر في سياسته، وجدوا أنفسهم بمعزل عن أعوانهم، فأراد أن يكبح جماحهم ويوقفهم عند حدهم ويظهر لهم حقيقة أمرهم وماضيهم وحاضرهم بخطبته البليغة التي نشرناها. فوصفهم بقلة العقول وحقر من اتبعهم وعظمهم، لأنهم لا يستحقون التعظيم، وذلك فضل قريش في الجاهلية والإسلام على سائر القبائل العربية وفضل الإسلام عليهم، ثم وجه الخطاب إلى صعصعة، فقال: إن قريته شر القرى إلى آخر ما قال حتى أفرغ ما في جعبته، وأروى غُلته من غير خوف ولا وجل، ثم بالغ في الاحتقار بهم فإن قام بعد أن ألقى خطبته وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم. فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: "إني أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع اللَّه بكم أحدًا أبدًا ولا يضره. ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أرتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم".
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم:
"إني معيد عليكم أن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ كان معصومًا فولاَّني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاَّني. ثم استخلف عمر فولاَّني. ثم استخلف عثمان فولاَّني. فلم يولني أحد إلا وهو عني راضٍ".
وإنما طلب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ للأعمال أهل الجزاء من المسلمين والغنى، وأن اللَّه ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تتعرضوا للأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن اللَّه غير تارككم حتى يختبركم، ويبدي للناس سرائركم، وقد قال عز وجل: {الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2].
وكتب معاوية إلى عثمان:
"إنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون اللَّه بشيء ولا يتكلمون بحجة. إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، واللَّه مبتليهم ومختبرهم. ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فإنه سعيد ومن قبله عنهم فإنهم ليسوا الأكثر من شغب أو تكبر".
وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة فإنهم يشتمون بكم وميلوا بنا إلى الجزيرة ودعوا العراق والشام فأووا إلى الجزيرة وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان معاوية قد ولاَّه حمص وولَّى عامل الجزيرة حَرّان والرقَّة فدعا بهم فقال: "يا آلة الشيطان لا مرحبًا بكم ولا أهلًا، قد رجع الشيطان محسورًا وأنتم بعدُ نٍشَاط، خسَّر اللَّه عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم، يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون [ص 133] لمعاوية: أنا ابن خالد بن الوليد. أنا ابن مَنْ عجمته العاجمات. أنا ابن فاقئ الردة. واللَّه لئن بلغني يا صعصعة بن ذُل أن أحدًا ممن دق أنفك، ثم أمصّك لأطيرن بك طَيْرة بعيدة المهوى".
فأقامهم أشهرًا كلما ركب أمشاهم، فإذا مرَّ به صعصعة قال: "يا ابن الحطيئة [ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 34: "بابن الخطيئة".
] أعلمت أن من لم يُصلحه الخير أصلحه الشر. ما لك لا تقول كما كان يبلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية."
فيقولون: نتوب إلى اللَّه أقلنا أقالك اللَّه. فما زالوا به حتى قال: تاب اللَّه عليكم وسرح الأشتر إلى عثمان وقال لهم: ما شئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا.
وخرج الأشتر فأتى عثمان بالتوبة والندم والنزوع عنه، وعن أصحابه فقال: سلمكم اللَّه. وقدم سعيد بن العاص فقال عثمان للأشتر: احلل حيث شئت. فقال مع عبد الرحمن بن خالد، وذكر من فضله فقال: ذلك إليكم، فرجع إلى عبد الرحمن.
قد كان عبد الرحمن بن خالد أشد عليهم من معاوية، وقد تابوا على يديه.
وفي الطبري رواية أخرى، وهي أن معاوية بعد أن ألقى عليهم الخطبة السابقة عاد وقال لهم [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 636]:
"إني واللَّه ما آمركم بشيء إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصتي، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلا ما جعل اللَّه لنبيه نبي الرحمة ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فإن اللَّه انتخبه وأكرمه، فلم يخلق في أحد من الأخلاق الصالحة شيئًا إلا أصفاه اللَّه بأكرمها وأحسنها. ولم يخلق من الأخلاق السيئة شيئًا في أحد إلا أكرمه اللَّه عنها ونزهه. وإني لا أطن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازمًا".
وهنا نرى أن معاوية أطرى نفسه فقال صعصعة:
"كذبت وقد ولدهم خير من أبي سفيان، من خلقه اللَّه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له فكان فيهم البرَّ والفاجر والأحمق والكيَّس".
فخرج معاوية تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلًا ثم قال:
"أيها القوم ردوا عليَّ خيرًا، أو اسكتوا، وتفكَّروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المؤمنين فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم" [ص 134].
فقال صعصعة: "لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية اللَّه".
فقال معاوية: "أوَليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى اللَّه وطاعته وطاعة نبيه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أن تعتصموا بحبله جميعًا ولا تفرقوا".
قالوا: "بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ".
قال: "فإني آمركم الآن إن كنتُ فعلتُ فأتوب إلى اللَّه وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم".
فقال صعصعة: "فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن في المسلمين مَن هو أحق به منك".
فقال: "مَن هو؟".
قال: "مَن كان أبوه أحسن قدمًا من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدمًا منك في الإسلام".
فقال معاوية: "واللَّه إن لي في الإسلام قدمًا ولغيري كان أحسن قدمًا مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني. ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب. فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري. ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي. ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إليَّ بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى اللَّه أن يفعل ذلك لرجوتُ أن لا يعزم له على ذلك إلا وهو خير. فمهلًا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر. ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يومًا ولا ليلة. ولكن اللَّه يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره. فعاودوا الخير وقولوه".
فقالوا: "لست لذلك أهلًا..."
فقال: "أما واللَّه إن للَّه لسطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تحلكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم اللَّه في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل".
فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته فقال:
"مهَ، إن هذه ليست بأرض الكوفة. واللَّه لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم. فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضًا، ثم قام من عندهم فقال: "واللَّه لا أدخل عليكم ما بقيت" [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 638، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 35، إن هذا الأمر يستدعي الوقوف عنده وقفة شك، فكيف لهؤلاء الرهط أن يتطاولوا على عامل الخليفة وهو موكل بتأديبهم، لا سيما أن المعني بالأمر هو معاوية بن أبي سفيان] [ص 135]. ثم كتب إلى عثمان:
"بسم اللَّه الرحمن الرحيم. لعبد اللَّه عثمان أمير المؤمنين، من معاوية بن أبي سفيان. أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقوامًا يتكلمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم، ويأتون الناس، زعموا من قبل القرآن فيشبهون على الناس وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة.
قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقي الشيطان من قلوبهم. فقد أفسدوا كثيرًا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم فلتكن دارهم في مصرهم الذي جمَّ فيه نفاقهم والسلام".
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم إليه. فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا. وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم. فكتب عثمان إلى سعيد أن سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.، وكان أميرًا على حمص. وكتب إلى الأشتر وأصحابه:
"أما بعد، فإني قد سيرتكم إلى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرًا والسلام". فلما قرأ الأشتر الكتاب قال: "اللَّهم أسوأنا نظرًا للرعية وأعملنا فيهم بالمعصية، فعجل له النقمة". فكتب بذلك سعيد إلى عثمان.
وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل وأجرى لهم رزقًا.
لقد تطاول هؤلاء على معاوية وأمروه أن يتخلى عن مركزه لأن من المسلمين من هو أصلح منه، كما تطاولوا على سعيد من قبل وطعنوا على عثمان. وهم وإن كانوا من أشراف أهل العراق إلا أنهم أهل فتنة. وقد تسامح معهم معاوية كما تسامح معهم سعيد. ومن هذا يتبين مقدار الحرية التي كانت ممنوحة للرعية في ذلك الوقت فلم يؤخذوا ويحاكموا على أقوالهم ومطاعنهم إنما اكتفى بتسييرهم من بلد إلى آخر وأجرى عليهم عبد الرحمن بن خالد رزقًا.
خلو الكوفة من الرؤساء
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634 639]: [ص 136]. أذن معاوية لأهل الفتنة الذين أمر عثمان بتسييرهم إلى الشام أن يذهبوا أنى شاءوا، فتحدثوا فيما بينهم فقالوا: إن العراق والشام ليسَا لنا بدار فعليكم بالجزيرة فأتوها اختيارًا، فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد فسامهم الشدة كما ذكرناه وتابعوه وتابوا، وسرح الأشتر إلى عثمان فدعا به وقال: اذهب حيث شئت. فقال: أرجع إلى عبد الرحمن، فرجع.
ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان. وكان سعيد قد ولي قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى:
ـ1ـ الأشعث بن قيس [الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، أبو محمد، ولد سنة 23 ق. هـ. أمير كندة في الجاهلية والإسلام، كانت إقامته في حضرموت، وفد على النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعد ظهور الإسلام، في جمع من قومه، أسلم وشهد اليرموك، فأصيبت عينه، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض بطون كندة عن تأدية الزكاة، فتنحى والي حضرموت بمن بقي على الطاعة من كندة، وجاءته النجدة فحاصر حضرموت فاستسلم الأشعث وفتحت حضرموت عنوة، وأرسل الأشعث موثوقًا إلى أبي بكر المدينة ليرى فيه رأيه، فأطلقه أبو بكر وزوَّجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في حروب العراق، ولما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفِّين، على راية كندة، وحضر معه وقعة النهروان، وورد المدائن، ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها سنة 40 هـ على أثر اتفاق الحسن ومعاوية، كان من ذوي الرأي والإقدام، موصوفًا بالهيبة، هو أول راكب في الإسلام مشت معه الرجال يحملون الأعمدة بين يديه ومن خلفه. للاستزادة راجع: ابن عساكر ج 3/ص 64، الآمدي 45، تاريخ الخميس ج 2/ص 289، ثمار القلوب 69، ذيل المذيل 34، خزانة الأدب للبغدادي ج 2/ص 465، تاريخ بغداد ج 1/ص 196.
:أذربيجان].
ـ2ـ سعيد بن قيس [هو سعيد بن قيس بن زيد، من بني زيد بن مريب، من همدان، فارس من الأجواد الدهاة، من سلالة ملوك همدان، كان خاصًا بالإمام علي، قاتل معه يوم صفِّين، كان إليه أمر همدان بالعراق، وإليه ينسب السعيدين في بيت زُود باليمن. للاستزادة راجع: الإكليل ج 10/ص 46 50.] : الري.
ـ3ـ النُّسيَر العجلي [هو النُّسَيْر بن ديسم بن ثور بن عريجة بن ملحم بن هلال بن ربيعة، العجلي، من بني عجل بن لجيم، قائد، فاتح، أدرك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، شهد في عهد عمر الفتوح كلها والقادسية، وهو من تُنسب إليه قلعة النُسير قرب نهاوند، كانت من قلاع الفرس فاعتصم بها قوم منهم، أيام زحف العرب، حاصرها وفتحها فعرفت باسمه سنة 21 هـ، توفي سنة 35 هـ. للاستزادة راجع: التاج ج 3/ص 564، جَمْهرة الأنساب ص 295، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3/7، ياقوت في معجم البلدان ج 8/ص 287 288، الإصابة ترجمة 8810، الآمدي، المؤتلف والمختلف ص 61.] : همذان. [ص 137].
ـ4ـ السائب بن الأقرع : أصبهان.
ـ5ـ مالك بن حبيب : ماه.
ـ6ـ حكيم بن سلام الخزامي : الموصل.
ـ7ـ جرير بن عبد اللَّه : قرقيسيا.
ـ8ـ سلمان بن ربيعة : الباب.
ـ9ـ عتيبة بن النهاس : حُلوان.
ـ10ـ القعقاع بن عمرو [هو القعقاع بن عمرو التميمي، أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام، له صحبة، شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس، سكن الكوفة، وأدرك وقعة صفِّين مع علي بن أبي طالب، وكان يتقلَّد في أوقات الزينة سيف هرقل (ملك الروم) ويلبس درع بهرام (ملك الفرس) وهما مما أصابه من الغنائم في حروب فارس، وكان شاعرًا فحلًا، قال أبو بكر: "صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل"، توفي سنة 58 هـ. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ حوادث سنة 16 هـ، الإصابة ترجمة 7129.] : جعله على الحرب.
هؤلاء عشرة من الكبار أُرسلوا إلى جهات متعددة. ولو أنهم بقوا بالكوفة لكان لهم تأثير في منع ما عساه أن يحدث من الشغب والفتنة، ولكن سعيد بن العاص لم يكن يتوقع انتشار الفتنة فأرسلهم إلى هذه المراكز لأغراض حربية. وبذلك خلت الكوفة من الرؤساء.
عزل سعيد بن العاص
[المسعودي مروج الذهب ج 2/ص 346] وتولية أبي موسى الأشعري:
خرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، ومعه الذين كان يكاتبهم ابن السوداء [هو عبد اللَّه بن سبأ، وكان يهوديًا من جنوب بلاد العرب فأسلم واستفسد الناس على عثمان وبثَّ دعايته في الآفاق وتنقل في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر يدعو الناس للثورة.] فقال القعقاع بن عمرو: إنما نستعفي من سعيد: فقال يزيد: أما هذا فنعم، وكاتب المسيرين [وهم الذين سيَّرهم عثمان إلى معاوية ومنهم الأشتر وصعصعة.] [ص 138] ليقدموا عليه. فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن بن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس إلا والأشتر على باب المسجد مسجد الكوفة يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيدًا يريد علي نقصان نسائكم على مائة درهم ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين ويزعم أن فيئكم بستان قريش فاستخف الناس. وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم.
فخرج يزيد وأمر مناديًا ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل، فبقي أشرافهم وحلماؤهم في المسجد، وعمرو بن حُرَيث [عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشي، يكنى أبا سعيد، رأى النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وقيل: إنه أول قرشي اتخذ بالكوفة دارًا وكان من أغنى أهل الكوفة وولي لبني أمية بالكوفة.] يومئذٍ خليفة سعيد، فصعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه وأمرهم بالاستماع والطاعة. فقال له القعقاع: "أترد السيل عن أدراجه؟ هيهات، لا واللَّه لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تنتضي ويعجون هجيج العيدان، ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده اللَّه عليهم أبدًا فاصبر". قال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله.
وخرج يزيد بن قيس، فنزل الجرَعة وهي قريب من القادسية ومعه الأشتر فوصل إليهم سعيد بن العاص. فقالوا: لا حاجة لنا بك. قال: إنما يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلًا وإليَّ رجلًا. وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد. وجاء في الطبري نص الخطبة التي ألقاها عليهم عمرو بن حُرَيث نائب سعيد وهي كما يلي [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 642]:
{اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} [آل عمران: 103]، بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. فلا تعودوا في شر قد استنقذكم منه اللَّه عز وجل. أبعد الإسلام وهديه وسنته لا تعرفون حقًا وتصيبون بابه!".
ولما انصرف عنهم سعيد أحسوا بمولى لهم على بعير قد حسر. فقال: واللَّه ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر، ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البدل. وأنهم يختارون أبا موسى. قال: "أثبتنا أبا موسى عليهم وواللَّه لا نجعل لأحد عذرًا ولا نترك لهم حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى نبلغ ما يريدون".
وقد أراد عثمان بخلع سعيد وتنصيب أبي موسى أن تهدأ الفتنة ولا يكون لأحد بعد ذلك عذر أو شكوى. وكتب إليهم: [ص 139].
"أما بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، وواللَّه لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يُعصى اللَّه فيه إلا سألتموه، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصى اللَّه فيه إلا استعفيتم منه. أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على اللَّه حجة كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون".
ورجع من الأمراء من قرب عمله من الكوفة فرجع جرير من قرقيسياء. وعتيبة من حُلوان.
وقام أبو موسى الأشعري فتكلم بالكوفة فقال:
"أيها الناس لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله. ألزموا جماعتكم الطاعة وإياكم والعجلة. فأجابوه إلى ذلك. وقالوا: فصلِّ بنا، قال لا. إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان. قالوا: السمع والطاعة لعثمان.
رسول أهل الكوفة إلى عثمان
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39 42:].
اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلمه ويخبره بأحداثه فأرسلوا إليه عامر بن عبد اللَّه التميمي، وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فدخل عليه فقال: إن ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورًا عظامًا، فاتق اللَّه عز وجل، وتب إليه، وانزع عنها.
فقال عثمان: انظروا إلى هذا، فإن الناس يزعمون أنه قارئ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقَّرات، فواللَّه ما يدري أين اللَّه. قال عامر: أنا لا أدري أين اللَّه؟ قال: نعم، واللَّه ما تدري أين اللَّه. قال عامر: بلى واللَّه إني لأدري أن اللَّه بالمرصاد لك.
عثمان يجمع أهل الرأي ليشاورهم في الأمر
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39ـ 42.]:
أرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد اللَّه بن سعد بن أبي سُرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص، وإلى عبد اللَّه بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: [ص 140].
"إن لكل امرئ وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي، وأهل ثقتي، ولقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليَّ". فقال له عبد اللَّه بن عامر: "رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دَبَرة دابته وقمل فروه".
فقال عثمان: (إن هذا الرأي لولا ما فيه) خشي عثمان أن ينفذ رأي ابن عامر الذي يقضي بقطع دابر قادة الفتنة للخلاص من شرهم ودسائسهم.
ثم أقبل عثمان على معاوية فقال: ما رأيك؟
قال: "أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عُمالك على الكفاية لما قِبَلهم وأنا ضامن لك قِبَلي".
ثم أقبل على عبد اللَّه بن سعد فقال: ما رأيك؟
قال: "أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليهم قلوبهم".
ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟.
قال: "أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا وامض قُدمًا". فرأى عمرو أن عثمان لا يعدل فطلب إليه أن يعتزل أو يعدل ولا يتردد فقال عثمان: "ما لك قِملَ فروك. أهذا الجد منك؟".
فسكت عمرو حتى إذا تفرَّقوا قال: "لا واللَّه يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك. ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا أو أدفع عنك شرًا".
لكن كلام عمرو هذا من شأنه أن يزيد نار الفتنة والنقمة على عثمان اشتعالًا، لأنه قال بصريح العبارة ـ: "فاعتزم أن تعدل". ومعنى هذا أنه لا يعدل، فكيف يستطيع عمرو بعد ذلك أن يقود إلى عثمان خيرًا أو يدفع عنه شرًا؟!. ومعلوم أن عمرًا كان ساخطًا على الخليفة، لأنه عزله عن ولاية مصر بعد أن فتحها. ولما أحس عمرو بأنه كدَّر عثمان بقوله أمام هؤلاء النفر أراد أن يسترضيه على حدة فقال ما قال [ص 141].
رد عثمان بعد ذلك عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وأمرهما بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
علي بن أبي طالب يحادث عثمان في أمر الفتنة
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 644، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 43]. لما كانت سنة 34 هـ كتب أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعضهم إلى بعض أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى، ولا يذبُّ إلا زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع الناس وكلموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال: "الناس ورائي وقد كلَّموني فيك. واللَّه ما أدري ما أقول لك. وما أعرف شيئًا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خُصصنا بأمر دونك وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الخير منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك. وإنك أقرب إلى رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ رَحِمًا. ولقد نلت من صهر رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ما لم ينالا. ولا سبقناك إلى شيء. فاللَّه اللَّه في نفسك فإنك واللَّه ما تُبصَّر من عمَى ولا تُعَلَّم من جهل، وإن الطريق لواضح بيَّن، وإن أعلام الدين لقائمة. تَعلَّم يا عثمان أن أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل هُدِي وهَدَى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة. فواللَّه إن كُلاَّ لبيَّن، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرَّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضَلَّ وضُلَّ به فأمات سُنة معلومة وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقول: (يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتطم في غمرة جهنم) [رواه ابن كثير في البداية والنهاية (7: 168).
[وإني أحذرك اللَّه وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإن يقال يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتُلْبَس أمورها عليها، ويتركهم شِيَعًا فلا يبصرون لحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجًا ويمرحون مَرَحًا."
فقال عثمان: [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] "قد واللَّه علمت ليقولُنّ الذي قلتَ. أما واللَّه لو كنت مكاني ما عنفتك ولا [ص 142] أسلمتك ولا عبتُ عليك، ولا جئتُ منكرًا إن وصلتُ رَحمًا، وسددتُ خَلة، وآويت ضائعًا، ووليت شبيهًا بمن كان عمر يولي. أنشدك اللَّه يا عليُّ هل تعلم أن المغيرة بن شُعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أن عمر ولاه؟ قال: نعم. قال: فَلِمَ تلومني أن وليت ابن عامر في رَحمه وقرابته. قال عليُّ: سأخبرك، إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل. ضعفت ورفقت على أقربائك. قال عثمان: هم أقرباؤك أيضًا. فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرها. قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها؟ فقد وليته. فقال عليُّ: أنشدك اللَّه هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يَرفْأ غلام عمر منه. قال: نعم. قال عليّ: فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها. فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تُغير على معاوية.
ثم خرج عليُّ من عند عثمان، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر فقال:
خطبة عثمان في المسجد
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44].
"أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة: عيَّابون، طعَّانون، يرونكم ما تحبون ويُسرون ما تكرهون يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق. أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نَغصًا ولا يَرِدون إلا عكرًا، لا [لا" مثبتة في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، وزيدت اعتمادًا على نص الطبري في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب. ألا فقد واللَّه عبتم عليَّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله؟ وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدِنْتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولِنْتُ لكم وأوطأت لكم كففي [؟؟]، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليّ. أما واللَّه لأنا أعز نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثرًا عددًا وأقمن إن قلت هَلُم. أُتِيَ إليّ. ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولًا، وكشرت لكم عن نابي. وأخرجتم مني خُلُقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكفوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم مَن لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم. واللَّه ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن قبلي. ومَن لم تكونوا تختلفون عليه فضلَ فضْلٍ من مال. فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد. فَلِمَ كنت إمامًا" [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] [ص 143].
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكَّمنا واللَّه بيننا وبينكم السيف. نحن واللَّه وأنتم كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم *** معارسكم تبنون في دِمن الثرى
فقال عثمان: اسكت لا سُكِّتّ. دعني وأصحابي. ما منطقك في هذا؟ ألم أتقدم إليك ألا تنطق؟ فسكت مروان ونزل عثمان. قال عثمان لعليٍّ: إنه عيَّن من عينَّهم عمر بن الخطاب، ومع ذلك لم يؤاخذه أحد. فعيَّن المغيرة ومعاوية، فكان ردُّ عليٍّ أن عمر كان لا يتسامح مع من ولاَّه إذا ارتكب شيئًا، وأن عثمان يعامل أقاربه بالرفق ولا يعاقبهم. هذا ملخص ما دار بينهما ـ. أما الخطبة التي ألقاها عثمان فلم يكن لها تأثير في تهدئة الفتنة، بل اشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه. ويلاحظ أن مروان يتداخل ويهدد الناس بالحرب بالرغم من أن عثمان كان قد أمره بلزوم الصمت. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:31 am | |
| عثمان بن عفان عثمان بن عفان ذو النورين ( 10 من 15 ) السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي الفصل الخامس: الفتنة
تسيير أهل الفتنة في العراق إلى معاوية في الشام
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 30]:
اختار سعيد بن العاص والي الكوفة بعد الوليد بن عقبة وجوه الناس، وأهل القادسية، وقراء أهل البصرة دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس الناس فإنه يدخل عليه كل أحد. فجلس للناس يومًا فدخلوا عليه فبينا هم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة بن عبيد اللَّه! [هو طلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان التيمي، القرشي المدني، أبو محمد، صحابي، شجاع، من الأجواد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، ولد سنة 28 هـ، قال ابن عساكر: كان من دهاة قريش ومن علمائهم، وكان يقال له ولأبي بكر: القرينان، وذلك لأن نوفل بن حارث وكان أشد قريش رأى طلحة وقد أسلم خارجًا مع أبي بكر من عند النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فأمسكهما وشدَّهما في حبل. ويقال له: طلحة الجود، وطلحة الخير، وطلحة الفياض، وكل ذلك لقبه به رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في مناسبات مختلفة، ودعاه مرة: الصبيح المليح الفصيح. شهد أُحدًا وثبت مع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وبايعه على الموت، وأصيب بأربعة وعشرين جرحًا، وسَلِمَ، شهد الخندق وسائر المشاهد. كانت له تجارة وافرة مع العراق، ولم يكن يدع أحدًا من بني تيم عائلًا إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، ووفى دينه، قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة سنة 36 هـ، ودفن في البصرة. للاستزادة راجع: ابن سعد ج 3/ص 152، تهذيب التهذيب ج 5/ص 20، البدء والتاريخ ج 5/ص 82، الجمع بين رجال الصحيحين ص 230، غاية النهاية ج 1/ص 342، الرياض النضرة ج 2/ص 249، صفة الصفوة ج 1/ص 130، حلية الأولياء ج 1/ص 87، ذيل المذيل ص 11، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 71، المحبّر ص 355.
]. فقال سعيد بن العاص: :إن من له مثل النشاستج [نشاستج: ضيعة بالكوفة كانت لطلحة بن عبيد اللَّه التميمي. أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكانت عظيمة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بمال كان له بخيبر وعمرها فعظم دخلها. قال الواقدي: أول من أقطع بالعراق عثمان بن عفان ـ رضي اللَّه عنه ـ قطائع مما كان من صوافي آل كسرى ومما جلا عنه أهله فقطع لطلحة بن عبيد اللَّه النشاستج. وقيل بل أعطاه إياها عوضًا عن مال كان له بحضرموت.] لحقيق أن يكون جوادًا. واللَّه لو أن ليِّ مثله لأعاشكم اللَّه عيشًا رغدًا" [ص 128].
فقال عبد الرحمن بن خنيس، وهو حدث: واللَّه لوددت أن هذا الملطاط [قال ابن النجار في كتاب الكوفة: وكان يقال لظهر الكوفة: اللسان، وما ولى الفرات منه الملطاط.] لك يعني ما كان لكسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة.
قالوا: فضَّ اللَّه فاك. واللَّه لقد هممنا بك. فقال خنيس: غلام فلا تجاوزوه. فقالوا: يتمنى له من سوادنا. قال: ويتمنى لكم أضعافه. قالوا: لا يتمنى لنا ولا له. قال: ما هذا بكم. قالوا: أنت واللَّه أمرته بها. فثار إليه الأشتر، وابن ذي الحبكة، وجندب، وصعصعة، وابن الكواء، وكميل، وعمير بن ضابئ فأخذوه. فذهب أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرًا.
فسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وفيهم طليحة [هو طُلَيْحة بن خويلد الأسدي، من أسد خزيمة، متنبّئ، شجاع، من الفصحاء، متوفى سنة 21 هـ. يقال له: طُلَيْحة الكذاب، كان من أشجع العرب، يُعَدُّ بألف فارس كما يقول النووي، قدم على النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في وفد بني أسد سنة 9 هـ، وأسلموا، ولما رجعوا ارتد طُلَيْحة، وادَّعى النبوة في حياة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فوجَّه إليه ضرار بن الأزور، فضربه ضرار بسيف يريد قتله، فنبا السيف، فشاع بين الناس أن السلاح لا يؤثر فيه. ومات النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فكثر أتباع طُلَيْحة من أسد وغطفان وطيئ وكان يقول: إن جبريل يأتيه، وتلا على الناس أسجاعًا أمرهم فيها بترك السجود في الصلاة وكانت رايته حمراء. طمع بامتلاك المدينة، فهاجر بعض أشياعه، فردهم أهلها، غزاه أبو بكر وسيَّر إليه خالد بن الوليد فانهزم طُلَيْحة وفرَّ إلى الشام، ثم أسلم بعد أن أسلمت أسد وغطفان كافة، وفد على عمر وبايعه في المدينة، وخرج إلى العراق، فَحَسن بلاؤه في الفتوح، واستشهد بنهاوند. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ ج 2 أحداث سنة 11، معجم البلدان مادة: بزاخة، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 300، تاريخ الخميس ج 2/ص 187، الإصابة ترجمة 4283، تهذيب الأسماء واللغات ج 1/ص 201.]، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل، فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال: أيها الناس. قوم تنازعوا وتهاووا وقد رزق اللَّه العافية. ثم قعدوا وعادوا في حديثهم وتراجعوا. وأفاق الرجلان فقال: أبكما حياة؟ قالا: قتلتنا غاشيتك [غاشيتك: أي الذين يترددون عليك. [القاموس المحيط، مادة: غشي].
] قال: لا يغشوني واللَّه أبدًا فاحفظا عليَّ ألسنتكما ولا تجرَّئا عليَّ الناس، ففعلا [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 31].
ولما انقطع أولئك النفر من ذلك، قعدوا في بيوتهم وأقبلوا على الإذاعة حتى لامه أهل [ص 129] الكوفة في أمرهم. فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن أحرك شيئًا فمن أراد أن يحرك شيئًا فليحركه، إن هؤلاء النفر لما قعدوا في بيوتهم تكلموا في حق الخليفة عثمان وشتموه.
وقيل: بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر [يسمر: يتحدَّث ليلًا. [القاموس المحيط، مادة: سمر].] عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب والأسود بن يزيد [هو الأسود بن يزيد بن قيس، النخعي، الكوفي، أبو عمرو، المتوفى سنة 75 هـ، تابعي فقيه من الحفاظ، كان عالم الكوفة في عصره، ثقة، مكثر. للاستزادة راجع: تذكرة الحُفَّاظ ج 1/ص 85، حلية الأولياء ج 2/ص 108، تهذيب الكمال ج 1/ص 301، تهذيب التهذيب ج 1/ص 66، تقريب التهذيب ج 1/ص 178، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 188، الكاشف ج 1/ص 200، تاريخ البخاري الكبير ج 1/ص 105، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 207، الجرح والتعديل ج 2/ص 178، الثقات ج 4/ص 310، الوافي بالوفيات ج 9/ص 222، طبقات الحفاظ ص 125، شذرات الذهب ج 1/ص 180، سير الأعلام ج 4/ص 118، البداية والنهاية ج 9/ص 205، نسيم الرياض ج 2/ص 236، أعيان الشيعة ج 3/ص 287، طبقات ابن سعد ج 9/ص 188.]، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر [هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي، المعروف بالأشتر، أمير من كبار الشجعان، كان رئيس قومه، أدرك الإسلام، أول من عرف عنه أنه حضر خطبة عمر في الجابية، سكن الكوفة، وكان له نسل فيها، كان ممن ألَّبَ على عثمان وحضر حصره في المدينة، شهد يوم الجمل، وأيام صفِّين مع علي، وولاَّه على مصر فقصدها، فمات في الطريق سنة 37 هـ، فقال علي: رحم اللَّه مالكًا، فلقد كان لي كما كنت لرسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وله شعر جيد، يُعد من الشجعان الأجواد، العلماء الفصحاء، الفصحاء. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 8343، التهذيب ج 10/ص 11، الولاة والقضاة 23، سمط الآلي 277، المؤتلف والمختلف 28، المرزباني 362، التبريزي ج 1/ص 75، دائرة المعارف الإسلامية ج 2/ص 210، المحبّر 233.
] وغيرهم. فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان قريش فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه اللَّه علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك، وتكلم القوم معه. فقال عبد الرحمن الأسدي وكان على شرطة سعيد ـ: أتردون على الأمير مقالته؟ وأغلظ عليهم. فقال الأشتر: مَنْ ههنا؟ لا يفوتنكم الرجل، فوثبوا عليه، فوطأوه وطًا شديدًا حتى غشي عليه. ثم جرّوه برجله فنضح بماء فأفاق. فقال: قتلتني من انتخبت. فقال: واللَّه لا يسمر عندي أحد أبدًا فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدًا. واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم.
ومن هنا يتضح أن الفتنة قد بلغت عندئذٍ حدًا عظيمًا في الكوفة فضعف مركز الوالي، ولم [ص 130] يقدر أن يؤدبهم، حتى اجترأوا أن يضربوا من رد عليهم ضربًا مبرحًا من غير أن يستطيع أن يبدي حراكًا ولما منع الاجتماع أخذوا يشتمونه ويشتمون الخليفة.
كتب أشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية. وكتب عثمان إلى معاوية: "إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرًا خلقوا للفتنة فرعهم وقم عليهم فإن آنست منهم رشدًا فاقبل منهم، وإن أعيوك فاردد عليهم."
فلما قدموا على معاوية رحب بهم، وأنزلهم كنيسة تسمى "مريم"، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل يتغدى ويتعشى معهم فقال لهم يومًا:
"إنكم قوم من العرب، لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم. وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا، وإن قريشًا لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم، إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة فلا تسدوا عن جنتكم. وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة. واللَّه لتنتهن أو ليبتلينكم اللَّه بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر، لم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعيَّة في حياتكم وبعد موتكم".
فقال رجل من القوم، وهو صعصعة:
"أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا. وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اختُرقت خُلص إلينا".
فقال معاوية: "عرفتكم الآن. علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلًا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكرك به وتذكرني الجاهلية، وقد وعظتك، وتزعم لما يجنك أنه يخترق إليك ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة. أخزى اللَّه أقوامًا أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم افقهوا ولا أظنكم تفقهون. إن قريشًا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا باللَّه عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا، ومحضهم أنسابًا وأعظمهم أخطارًا وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضًا إلا باللَّه الذي لا يُستذل من أعز، ولا يوضع من رفع، فبوَّأهم حَرَمًا آمنًا يُتَخَطف الناس من حولهم. هل تعرفون عربًا أو عجمًا أو سودًا أو حمرًا إلا قد أصابهم الدهر في بلدهم وحُرْمتهم بدولة إلا ما كان من قريش فإنه لم يُردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل اللَّه خده الأسفل حتى أراد اللَّه أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارهم قريشًا، ثم بُنيَ هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم. ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان اللَّه يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم باللَّه، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم. أف لك ولأصحابك. ولو أن [ص 131] متكلمًا غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت. فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، وأنتها نبتًا، وأعمقها واديًا، وأعرفها بالشر، وألأمها جيرانًا. لم يسكنها شريف قط، ولا وضيع إلا سُبَ بها وكانت عليه هُجْنَة [الهُجْنَة من الكلام: ما يلزمك منه العيب، تقول: "لا تفعل كذا فيكون عليك هجنة".] ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا، وألأمهم أصهارًا، نُزَّاع الأمم، وأنتم جيران الخط وفَعَلة فارس حتى أصابتكم دعوة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير في عمان لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فأنت شر قومك حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين اللَّه عِوَجًا وتنزع إلى اللامة والذلة ولا يضع ذلك قريشًا، ولن يضرهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم. إن الشيطان عنكم غير غافل. قد عرفكم بالشر من بين أمتكم فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاه اللَّه ولا أمرًا أراده اللَّه، ولا تدركون بالشر أمرًا إلا فتح عليكم شرًا منه وأخزى".
أرسل هؤلاء النفر الذين أحدثوا الشغب واللغط في الكوفة، وعابوا على سعيد بن العاص وعثمان إلى معاوية بالشام. وفي نظرنا أن سبب هذه الفتنة كما أورده الطبري وابن الأثير [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 30.] تافه لا يدعو إلى كل ما حدث. فقد ذكر أن عبد الرحمن بن خنيس وهو شاب قال: "واللَّه لوددت أن هذا الملطاط لك" يعني لسعيد أي ما كان لكسرى على جانب الفرات. فهذا الذي أثار ثائرتهم. شاب يتمنى أن تكون لسعيد بن العاص هذه الناحية من الفرات حتى يجود بمثل ما كان يجود به طلحة بن عبيد اللَّه. وقد كان سعيد كما ذكرنا في ترجمته كريمًا يقيم الولائم، ويتصدق على المصلين. غاظ هؤلاء القوم الذين كانوا يحضرون مجلس سعيد، وكان يخصهم بسمره أن يتمنى هذا الشاب ذلك. ولو أنه مجرد تمنٍ ومع هذا تعدوا عليه وضربوه وضربوا أباه. وقد توسَّل إليهم الوالي بجلالة قدره أن يتركوهما فلم يفد فأشبعوهما ضربًا. وكل ما قدر عليه سعيد أنه منع أن يتسامروا عنده بعد ذلك.
وذُكر سبب غير ذلك وهو قول سعيد: (إنما هذا السواد بستان قريش). فأغلظوا عليه القول، فغضب صاحب شرطته [هو عبد الرحمن الأسدي] ولامهم على ما كان منهم، فأوسعوه ضربًا حتى غشي عليه. فلا بد أن هؤلاء الذين قربهم سعيد كانوا يحقدون عليه ويتحيَّنون الفرص للانتقام منه، لكنه حسب حسابهم، ولم يعاقبهم بنفسه على تهوّرهم واعتدائهم ومخالفتهم أمره خشية اتساع الخرق واشتداد الفتنة، فكتب إلى الخليفة في شأنهم وفوَّض إليه الأمر. فلما ذهبوا إلى معاوية وهو كما [ص 132] نعلم قويٌّ في حكومته، ماهر في سياسته، وجدوا أنفسهم بمعزل عن أعوانهم، فأراد أن يكبح جماحهم ويوقفهم عند حدهم ويظهر لهم حقيقة أمرهم وماضيهم وحاضرهم بخطبته البليغة التي نشرناها. فوصفهم بقلة العقول وحقر من اتبعهم وعظمهم، لأنهم لا يستحقون التعظيم، وذلك فضل قريش في الجاهلية والإسلام على سائر القبائل العربية وفضل الإسلام عليهم، ثم وجه الخطاب إلى صعصعة، فقال: إن قريته شر القرى إلى آخر ما قال حتى أفرغ ما في جعبته، وأروى غُلته من غير خوف ولا وجل، ثم بالغ في الاحتقار بهم فإن قام بعد أن ألقى خطبته وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم. فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: "إني أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع اللَّه بكم أحدًا أبدًا ولا يضره. ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أرتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم".
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم:
"إني معيد عليكم أن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ كان معصومًا فولاَّني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاَّني. ثم استخلف عمر فولاَّني. ثم استخلف عثمان فولاَّني. فلم يولني أحد إلا وهو عني راضٍ".
وإنما طلب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ للأعمال أهل الجزاء من المسلمين والغنى، وأن اللَّه ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تتعرضوا للأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن اللَّه غير تارككم حتى يختبركم، ويبدي للناس سرائركم، وقد قال عز وجل: {الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2].
وكتب معاوية إلى عثمان:
"إنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون اللَّه بشيء ولا يتكلمون بحجة. إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، واللَّه مبتليهم ومختبرهم. ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فإنه سعيد ومن قبله عنهم فإنهم ليسوا الأكثر من شغب أو تكبر".
وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة فإنهم يشتمون بكم وميلوا بنا إلى الجزيرة ودعوا العراق والشام فأووا إلى الجزيرة وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان معاوية قد ولاَّه حمص وولَّى عامل الجزيرة حَرّان والرقَّة فدعا بهم فقال: "يا آلة الشيطان لا مرحبًا بكم ولا أهلًا، قد رجع الشيطان محسورًا وأنتم بعدُ نٍشَاط، خسَّر اللَّه عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم، يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون [ص 133] لمعاوية: أنا ابن خالد بن الوليد. أنا ابن مَنْ عجمته العاجمات. أنا ابن فاقئ الردة. واللَّه لئن بلغني يا صعصعة بن ذُل أن أحدًا ممن دق أنفك، ثم أمصّك لأطيرن بك طَيْرة بعيدة المهوى".
فأقامهم أشهرًا كلما ركب أمشاهم، فإذا مرَّ به صعصعة قال: "يا ابن الحطيئة [ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 34: "بابن الخطيئة".
] أعلمت أن من لم يُصلحه الخير أصلحه الشر. ما لك لا تقول كما كان يبلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية."
فيقولون: نتوب إلى اللَّه أقلنا أقالك اللَّه. فما زالوا به حتى قال: تاب اللَّه عليكم وسرح الأشتر إلى عثمان وقال لهم: ما شئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا.
وخرج الأشتر فأتى عثمان بالتوبة والندم والنزوع عنه، وعن أصحابه فقال: سلمكم اللَّه. وقدم سعيد بن العاص فقال عثمان للأشتر: احلل حيث شئت. فقال مع عبد الرحمن بن خالد، وذكر من فضله فقال: ذلك إليكم، فرجع إلى عبد الرحمن.
قد كان عبد الرحمن بن خالد أشد عليهم من معاوية، وقد تابوا على يديه.
وفي الطبري رواية أخرى، وهي أن معاوية بعد أن ألقى عليهم الخطبة السابقة عاد وقال لهم [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 636]:
"إني واللَّه ما آمركم بشيء إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصتي، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلا ما جعل اللَّه لنبيه نبي الرحمة ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فإن اللَّه انتخبه وأكرمه، فلم يخلق في أحد من الأخلاق الصالحة شيئًا إلا أصفاه اللَّه بأكرمها وأحسنها. ولم يخلق من الأخلاق السيئة شيئًا في أحد إلا أكرمه اللَّه عنها ونزهه. وإني لا أطن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازمًا".
وهنا نرى أن معاوية أطرى نفسه فقال صعصعة:
"كذبت وقد ولدهم خير من أبي سفيان، من خلقه اللَّه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له فكان فيهم البرَّ والفاجر والأحمق والكيَّس".
فخرج معاوية تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلًا ثم قال:
"أيها القوم ردوا عليَّ خيرًا، أو اسكتوا، وتفكَّروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المؤمنين فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم" [ص 134].
فقال صعصعة: "لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية اللَّه".
فقال معاوية: "أوَليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى اللَّه وطاعته وطاعة نبيه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أن تعتصموا بحبله جميعًا ولا تفرقوا".
قالوا: "بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ".
قال: "فإني آمركم الآن إن كنتُ فعلتُ فأتوب إلى اللَّه وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم".
فقال صعصعة: "فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن في المسلمين مَن هو أحق به منك".
فقال: "مَن هو؟".
قال: "مَن كان أبوه أحسن قدمًا من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدمًا منك في الإسلام".
فقال معاوية: "واللَّه إن لي في الإسلام قدمًا ولغيري كان أحسن قدمًا مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني. ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب. فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري. ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي. ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إليَّ بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى اللَّه أن يفعل ذلك لرجوتُ أن لا يعزم له على ذلك إلا وهو خير. فمهلًا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر. ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يومًا ولا ليلة. ولكن اللَّه يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره. فعاودوا الخير وقولوه".
فقالوا: "لست لذلك أهلًا..."
فقال: "أما واللَّه إن للَّه لسطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تحلكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم اللَّه في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل".
فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته فقال:
"مهَ، إن هذه ليست بأرض الكوفة. واللَّه لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم. فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضًا، ثم قام من عندهم فقال: "واللَّه لا أدخل عليكم ما بقيت" [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 638، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 35، إن هذا الأمر يستدعي الوقوف عنده وقفة شك، فكيف لهؤلاء الرهط أن يتطاولوا على عامل الخليفة وهو موكل بتأديبهم، لا سيما أن المعني بالأمر هو معاوية بن أبي سفيان] [ص 135]. ثم كتب إلى عثمان:
"بسم اللَّه الرحمن الرحيم. لعبد اللَّه عثمان أمير المؤمنين، من معاوية بن أبي سفيان. أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقوامًا يتكلمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم، ويأتون الناس، زعموا من قبل القرآن فيشبهون على الناس وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة.
قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقي الشيطان من قلوبهم. فقد أفسدوا كثيرًا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم فلتكن دارهم في مصرهم الذي جمَّ فيه نفاقهم والسلام".
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم إليه. فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا. وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم. فكتب عثمان إلى سعيد أن سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.، وكان أميرًا على حمص. وكتب إلى الأشتر وأصحابه:
"أما بعد، فإني قد سيرتكم إلى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرًا والسلام". فلما قرأ الأشتر الكتاب قال: "اللَّهم أسوأنا نظرًا للرعية وأعملنا فيهم بالمعصية، فعجل له النقمة". فكتب بذلك سعيد إلى عثمان.
وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل وأجرى لهم رزقًا.
لقد تطاول هؤلاء على معاوية وأمروه أن يتخلى عن مركزه لأن من المسلمين من هو أصلح منه، كما تطاولوا على سعيد من قبل وطعنوا على عثمان. وهم وإن كانوا من أشراف أهل العراق إلا أنهم أهل فتنة. وقد تسامح معهم معاوية كما تسامح معهم سعيد. ومن هذا يتبين مقدار الحرية التي كانت ممنوحة للرعية في ذلك الوقت فلم يؤخذوا ويحاكموا على أقوالهم ومطاعنهم إنما اكتفى بتسييرهم من بلد إلى آخر وأجرى عليهم عبد الرحمن بن خالد رزقًا.
خلو الكوفة من الرؤساء
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634 639]: [ص 136]. أذن معاوية لأهل الفتنة الذين أمر عثمان بتسييرهم إلى الشام أن يذهبوا أنى شاءوا، فتحدثوا فيما بينهم فقالوا: إن العراق والشام ليسَا لنا بدار فعليكم بالجزيرة فأتوها اختيارًا، فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد فسامهم الشدة كما ذكرناه وتابعوه وتابوا، وسرح الأشتر إلى عثمان فدعا به وقال: اذهب حيث شئت. فقال: أرجع إلى عبد الرحمن، فرجع.
ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان. وكان سعيد قد ولي قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى:
ـ1ـ الأشعث بن قيس [الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، أبو محمد، ولد سنة 23 ق. هـ. أمير كندة في الجاهلية والإسلام، كانت إقامته في حضرموت، وفد على النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعد ظهور الإسلام، في جمع من قومه، أسلم وشهد اليرموك، فأصيبت عينه، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض بطون كندة عن تأدية الزكاة، فتنحى والي حضرموت بمن بقي على الطاعة من كندة، وجاءته النجدة فحاصر حضرموت فاستسلم الأشعث وفتحت حضرموت عنوة، وأرسل الأشعث موثوقًا إلى أبي بكر المدينة ليرى فيه رأيه، فأطلقه أبو بكر وزوَّجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في حروب العراق، ولما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفِّين، على راية كندة، وحضر معه وقعة النهروان، وورد المدائن، ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها سنة 40 هـ على أثر اتفاق الحسن ومعاوية، كان من ذوي الرأي والإقدام، موصوفًا بالهيبة، هو أول راكب في الإسلام مشت معه الرجال يحملون الأعمدة بين يديه ومن خلفه. للاستزادة راجع: ابن عساكر ج 3/ص 64، الآمدي 45، تاريخ الخميس ج 2/ص 289، ثمار القلوب 69، ذيل المذيل 34، خزانة الأدب للبغدادي ج 2/ص 465، تاريخ بغداد ج 1/ص 196.
:أذربيجان].
ـ2ـ سعيد بن قيس [هو سعيد بن قيس بن زيد، من بني زيد بن مريب، من همدان، فارس من الأجواد الدهاة، من سلالة ملوك همدان، كان خاصًا بالإمام علي، قاتل معه يوم صفِّين، كان إليه أمر همدان بالعراق، وإليه ينسب السعيدين في بيت زُود باليمن. للاستزادة راجع: الإكليل ج 10/ص 46 50.] : الري.
ـ3ـ النُّسيَر العجلي [هو النُّسَيْر بن ديسم بن ثور بن عريجة بن ملحم بن هلال بن ربيعة، العجلي، من بني عجل بن لجيم، قائد، فاتح، أدرك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، شهد في عهد عمر الفتوح كلها والقادسية، وهو من تُنسب إليه قلعة النُسير قرب نهاوند، كانت من قلاع الفرس فاعتصم بها قوم منهم، أيام زحف العرب، حاصرها وفتحها فعرفت باسمه سنة 21 هـ، توفي سنة 35 هـ. للاستزادة راجع: التاج ج 3/ص 564، جَمْهرة الأنساب ص 295، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3/7، ياقوت في معجم البلدان ج 8/ص 287 288، الإصابة ترجمة 8810، الآمدي، المؤتلف والمختلف ص 61.] : همذان. [ص 137].
ـ4ـ السائب بن الأقرع : أصبهان.
ـ5ـ مالك بن حبيب : ماه.
ـ6ـ حكيم بن سلام الخزامي : الموصل.
ـ7ـ جرير بن عبد اللَّه : قرقيسيا.
ـ8ـ سلمان بن ربيعة : الباب.
ـ9ـ عتيبة بن النهاس : حُلوان.
ـ10ـ القعقاع بن عمرو [هو القعقاع بن عمرو التميمي، أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام، له صحبة، شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس، سكن الكوفة، وأدرك وقعة صفِّين مع علي بن أبي طالب، وكان يتقلَّد في أوقات الزينة سيف هرقل (ملك الروم) ويلبس درع بهرام (ملك الفرس) وهما مما أصابه من الغنائم في حروب فارس، وكان شاعرًا فحلًا، قال أبو بكر: "صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل"، توفي سنة 58 هـ. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ حوادث سنة 16 هـ، الإصابة ترجمة 7129.] : جعله على الحرب.
هؤلاء عشرة من الكبار أُرسلوا إلى جهات متعددة. ولو أنهم بقوا بالكوفة لكان لهم تأثير في منع ما عساه أن يحدث من الشغب والفتنة، ولكن سعيد بن العاص لم يكن يتوقع انتشار الفتنة فأرسلهم إلى هذه المراكز لأغراض حربية. وبذلك خلت الكوفة من الرؤساء.
عزل سعيد بن العاص
[المسعودي مروج الذهب ج 2/ص 346] وتولية أبي موسى الأشعري:
خرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، ومعه الذين كان يكاتبهم ابن السوداء [هو عبد اللَّه بن سبأ، وكان يهوديًا من جنوب بلاد العرب فأسلم واستفسد الناس على عثمان وبثَّ دعايته في الآفاق وتنقل في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر يدعو الناس للثورة.] فقال القعقاع بن عمرو: إنما نستعفي من سعيد: فقال يزيد: أما هذا فنعم، وكاتب المسيرين [وهم الذين سيَّرهم عثمان إلى معاوية ومنهم الأشتر وصعصعة.] [ص 138] ليقدموا عليه. فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن بن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس إلا والأشتر على باب المسجد مسجد الكوفة يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيدًا يريد علي نقصان نسائكم على مائة درهم ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين ويزعم أن فيئكم بستان قريش فاستخف الناس. وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم.
فخرج يزيد وأمر مناديًا ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل، فبقي أشرافهم وحلماؤهم في المسجد، وعمرو بن حُرَيث [عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشي، يكنى أبا سعيد، رأى النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وقيل: إنه أول قرشي اتخذ بالكوفة دارًا وكان من أغنى أهل الكوفة وولي لبني أمية بالكوفة.] يومئذٍ خليفة سعيد، فصعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه وأمرهم بالاستماع والطاعة. فقال له القعقاع: "أترد السيل عن أدراجه؟ هيهات، لا واللَّه لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تنتضي ويعجون هجيج العيدان، ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده اللَّه عليهم أبدًا فاصبر". قال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله.
وخرج يزيد بن قيس، فنزل الجرَعة وهي قريب من القادسية ومعه الأشتر فوصل إليهم سعيد بن العاص. فقالوا: لا حاجة لنا بك. قال: إنما يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلًا وإليَّ رجلًا. وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد. وجاء في الطبري نص الخطبة التي ألقاها عليهم عمرو بن حُرَيث نائب سعيد وهي كما يلي [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 642]:
{اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} [آل عمران: 103]، بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. فلا تعودوا في شر قد استنقذكم منه اللَّه عز وجل. أبعد الإسلام وهديه وسنته لا تعرفون حقًا وتصيبون بابه!".
ولما انصرف عنهم سعيد أحسوا بمولى لهم على بعير قد حسر. فقال: واللَّه ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر، ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البدل. وأنهم يختارون أبا موسى. قال: "أثبتنا أبا موسى عليهم وواللَّه لا نجعل لأحد عذرًا ولا نترك لهم حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى نبلغ ما يريدون".
وقد أراد عثمان بخلع سعيد وتنصيب أبي موسى أن تهدأ الفتنة ولا يكون لأحد بعد ذلك عذر أو شكوى. وكتب إليهم: [ص 139].
"أما بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، وواللَّه لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يُعصى اللَّه فيه إلا سألتموه، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصى اللَّه فيه إلا استعفيتم منه. أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على اللَّه حجة كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون".
ورجع من الأمراء من قرب عمله من الكوفة فرجع جرير من قرقيسياء. وعتيبة من حُلوان.
وقام أبو موسى الأشعري فتكلم بالكوفة فقال:
"أيها الناس لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله. ألزموا جماعتكم الطاعة وإياكم والعجلة. فأجابوه إلى ذلك. وقالوا: فصلِّ بنا، قال لا. إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان. قالوا: السمع والطاعة لعثمان.
رسول أهل الكوفة إلى عثمان
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39 42:].
اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلمه ويخبره بأحداثه فأرسلوا إليه عامر بن عبد اللَّه التميمي، وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فدخل عليه فقال: إن ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورًا عظامًا، فاتق اللَّه عز وجل، وتب إليه، وانزع عنها.
فقال عثمان: انظروا إلى هذا، فإن الناس يزعمون أنه قارئ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقَّرات، فواللَّه ما يدري أين اللَّه. قال عامر: أنا لا أدري أين اللَّه؟ قال: نعم، واللَّه ما تدري أين اللَّه. قال عامر: بلى واللَّه إني لأدري أن اللَّه بالمرصاد لك.
عثمان يجمع أهل الرأي ليشاورهم في الأمر
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39ـ 42.]:
أرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد اللَّه بن سعد بن أبي سُرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص، وإلى عبد اللَّه بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: [ص 140].
"إن لكل امرئ وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي، وأهل ثقتي، ولقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليَّ". فقال له عبد اللَّه بن عامر: "رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دَبَرة دابته وقمل فروه".
فقال عثمان: (إن هذا الرأي لولا ما فيه) خشي عثمان أن ينفذ رأي ابن عامر الذي يقضي بقطع دابر قادة الفتنة للخلاص من شرهم ودسائسهم.
ثم أقبل عثمان على معاوية فقال: ما رأيك؟
قال: "أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عُمالك على الكفاية لما قِبَلهم وأنا ضامن لك قِبَلي".
ثم أقبل على عبد اللَّه بن سعد فقال: ما رأيك؟
قال: "أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليهم قلوبهم".
ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟.
قال: "أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا وامض قُدمًا". فرأى عمرو أن عثمان لا يعدل فطلب إليه أن يعتزل أو يعدل ولا يتردد فقال عثمان: "ما لك قِملَ فروك. أهذا الجد منك؟".
فسكت عمرو حتى إذا تفرَّقوا قال: "لا واللَّه يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك. ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا أو أدفع عنك شرًا".
لكن كلام عمرو هذا من شأنه أن يزيد نار الفتنة والنقمة على عثمان اشتعالًا، لأنه قال بصريح العبارة ـ: "فاعتزم أن تعدل". ومعنى هذا أنه لا يعدل، فكيف يستطيع عمرو بعد ذلك أن يقود إلى عثمان خيرًا أو يدفع عنه شرًا؟!. ومعلوم أن عمرًا كان ساخطًا على الخليفة، لأنه عزله عن ولاية مصر بعد أن فتحها. ولما أحس عمرو بأنه كدَّر عثمان بقوله أمام هؤلاء النفر أراد أن يسترضيه على حدة فقال ما قال [ص 141].
رد عثمان بعد ذلك عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وأمرهما بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
علي بن أبي طالب يحادث عثمان في أمر الفتنة
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 644، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 43]. لما كانت سنة 34 هـ كتب أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعضهم إلى بعض أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى، ولا يذبُّ إلا زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع الناس وكلموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال: "الناس ورائي وقد كلَّموني فيك. واللَّه ما أدري ما أقول لك. وما أعرف شيئًا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خُصصنا بأمر دونك وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الخير منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك. وإنك أقرب إلى رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ رَحِمًا. ولقد نلت من صهر رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ما لم ينالا. ولا سبقناك إلى شيء. فاللَّه اللَّه في نفسك فإنك واللَّه ما تُبصَّر من عمَى ولا تُعَلَّم من جهل، وإن الطريق لواضح بيَّن، وإن أعلام الدين لقائمة. تَعلَّم يا عثمان أن أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل هُدِي وهَدَى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة. فواللَّه إن كُلاَّ لبيَّن، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرَّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضَلَّ وضُلَّ به فأمات سُنة معلومة وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقول: (يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتطم في غمرة جهنم) [رواه ابن كثير في البداية والنهاية (7: 168).
[وإني أحذرك اللَّه وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإن يقال يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتُلْبَس أمورها عليها، ويتركهم شِيَعًا فلا يبصرون لحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجًا ويمرحون مَرَحًا."
فقال عثمان: [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] "قد واللَّه علمت ليقولُنّ الذي قلتَ. أما واللَّه لو كنت مكاني ما عنفتك ولا [ص 142] أسلمتك ولا عبتُ عليك، ولا جئتُ منكرًا إن وصلتُ رَحمًا، وسددتُ خَلة، وآويت ضائعًا، ووليت شبيهًا بمن كان عمر يولي. أنشدك اللَّه يا عليُّ هل تعلم أن المغيرة بن شُعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أن عمر ولاه؟ قال: نعم. قال: فَلِمَ تلومني أن وليت ابن عامر في رَحمه وقرابته. قال عليُّ: سأخبرك، إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل. ضعفت ورفقت على أقربائك. قال عثمان: هم أقرباؤك أيضًا. فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرها. قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها؟ فقد وليته. فقال عليُّ: أنشدك اللَّه هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يَرفْأ غلام عمر منه. قال: نعم. قال عليّ: فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها. فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تُغير على معاوية.
ثم خرج عليُّ من عند عثمان، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر فقال:
خطبة عثمان في المسجد
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44].
"أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة: عيَّابون، طعَّانون، يرونكم ما تحبون ويُسرون ما تكرهون يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق. أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نَغصًا ولا يَرِدون إلا عكرًا، لا [لا" مثبتة في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، وزيدت اعتمادًا على نص الطبري في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب. ألا فقد واللَّه عبتم عليَّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله؟ وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدِنْتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولِنْتُ لكم وأوطأت لكم كففي [؟؟]، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليّ. أما واللَّه لأنا أعز نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثرًا عددًا وأقمن إن قلت هَلُم. أُتِيَ إليّ. ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولًا، وكشرت لكم عن نابي. وأخرجتم مني خُلُقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكفوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم مَن لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم. واللَّه ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن قبلي. ومَن لم تكونوا تختلفون عليه فضلَ فضْلٍ من مال. فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد. فَلِمَ كنت إمامًا" [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] [ص 143].
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكَّمنا واللَّه بيننا وبينكم السيف. نحن واللَّه وأنتم كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم *** معارسكم تبنون في دِمن الثرى
فقال عثمان: اسكت لا سُكِّتّ. دعني وأصحابي. ما منطقك في هذا؟ ألم أتقدم إليك ألا تنطق؟ فسكت مروان ونزل عثمان. قال عثمان لعليٍّ: إنه عيَّن من عينَّهم عمر بن الخطاب، ومع ذلك لم يؤاخذه أحد. فعيَّن المغيرة ومعاوية، فكان ردُّ عليٍّ أن عمر كان لا يتسامح مع من ولاَّه إذا ارتكب شيئًا، وأن عثمان يعامل أقاربه بالرفق ولا يعاقبهم. هذا ملخص ما دار بينهما ـ. أما الخطبة التي ألقاها عثمان فلم يكن لها تأثير في تهدئة الفتنة، بل اشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه. ويلاحظ أن مروان يتداخل ويهدد الناس بالحرب بالرغم من أن عثمان كان قد أمره بلزوم الصمت. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:32 am | |
| عثمان بن عفان عثمان بن عفان ذو النورين ( 10 من 15 ) السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي الفصل الخامس: الفتنة
تسيير أهل الفتنة في العراق إلى معاوية في الشام
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 30]:
اختار سعيد بن العاص والي الكوفة بعد الوليد بن عقبة وجوه الناس، وأهل القادسية، وقراء أهل البصرة دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس الناس فإنه يدخل عليه كل أحد. فجلس للناس يومًا فدخلوا عليه فبينا هم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة بن عبيد اللَّه! [هو طلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان التيمي، القرشي المدني، أبو محمد، صحابي، شجاع، من الأجواد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، ولد سنة 28 هـ، قال ابن عساكر: كان من دهاة قريش ومن علمائهم، وكان يقال له ولأبي بكر: القرينان، وذلك لأن نوفل بن حارث وكان أشد قريش رأى طلحة وقد أسلم خارجًا مع أبي بكر من عند النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فأمسكهما وشدَّهما في حبل. ويقال له: طلحة الجود، وطلحة الخير، وطلحة الفياض، وكل ذلك لقبه به رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في مناسبات مختلفة، ودعاه مرة: الصبيح المليح الفصيح. شهد أُحدًا وثبت مع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وبايعه على الموت، وأصيب بأربعة وعشرين جرحًا، وسَلِمَ، شهد الخندق وسائر المشاهد. كانت له تجارة وافرة مع العراق، ولم يكن يدع أحدًا من بني تيم عائلًا إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، ووفى دينه، قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة سنة 36 هـ، ودفن في البصرة. للاستزادة راجع: ابن سعد ج 3/ص 152، تهذيب التهذيب ج 5/ص 20، البدء والتاريخ ج 5/ص 82، الجمع بين رجال الصحيحين ص 230، غاية النهاية ج 1/ص 342، الرياض النضرة ج 2/ص 249، صفة الصفوة ج 1/ص 130، حلية الأولياء ج 1/ص 87، ذيل المذيل ص 11، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 71، المحبّر ص 355.
]. فقال سعيد بن العاص: :إن من له مثل النشاستج [نشاستج: ضيعة بالكوفة كانت لطلحة بن عبيد اللَّه التميمي. أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكانت عظيمة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بمال كان له بخيبر وعمرها فعظم دخلها. قال الواقدي: أول من أقطع بالعراق عثمان بن عفان ـ رضي اللَّه عنه ـ قطائع مما كان من صوافي آل كسرى ومما جلا عنه أهله فقطع لطلحة بن عبيد اللَّه النشاستج. وقيل بل أعطاه إياها عوضًا عن مال كان له بحضرموت.] لحقيق أن يكون جوادًا. واللَّه لو أن ليِّ مثله لأعاشكم اللَّه عيشًا رغدًا" [ص 128].
فقال عبد الرحمن بن خنيس، وهو حدث: واللَّه لوددت أن هذا الملطاط [قال ابن النجار في كتاب الكوفة: وكان يقال لظهر الكوفة: اللسان، وما ولى الفرات منه الملطاط.] لك يعني ما كان لكسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة.
قالوا: فضَّ اللَّه فاك. واللَّه لقد هممنا بك. فقال خنيس: غلام فلا تجاوزوه. فقالوا: يتمنى له من سوادنا. قال: ويتمنى لكم أضعافه. قالوا: لا يتمنى لنا ولا له. قال: ما هذا بكم. قالوا: أنت واللَّه أمرته بها. فثار إليه الأشتر، وابن ذي الحبكة، وجندب، وصعصعة، وابن الكواء، وكميل، وعمير بن ضابئ فأخذوه. فذهب أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرًا.
فسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وفيهم طليحة [هو طُلَيْحة بن خويلد الأسدي، من أسد خزيمة، متنبّئ، شجاع، من الفصحاء، متوفى سنة 21 هـ. يقال له: طُلَيْحة الكذاب، كان من أشجع العرب، يُعَدُّ بألف فارس كما يقول النووي، قدم على النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في وفد بني أسد سنة 9 هـ، وأسلموا، ولما رجعوا ارتد طُلَيْحة، وادَّعى النبوة في حياة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فوجَّه إليه ضرار بن الأزور، فضربه ضرار بسيف يريد قتله، فنبا السيف، فشاع بين الناس أن السلاح لا يؤثر فيه. ومات النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فكثر أتباع طُلَيْحة من أسد وغطفان وطيئ وكان يقول: إن جبريل يأتيه، وتلا على الناس أسجاعًا أمرهم فيها بترك السجود في الصلاة وكانت رايته حمراء. طمع بامتلاك المدينة، فهاجر بعض أشياعه، فردهم أهلها، غزاه أبو بكر وسيَّر إليه خالد بن الوليد فانهزم طُلَيْحة وفرَّ إلى الشام، ثم أسلم بعد أن أسلمت أسد وغطفان كافة، وفد على عمر وبايعه في المدينة، وخرج إلى العراق، فَحَسن بلاؤه في الفتوح، واستشهد بنهاوند. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ ج 2 أحداث سنة 11، معجم البلدان مادة: بزاخة، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 300، تاريخ الخميس ج 2/ص 187، الإصابة ترجمة 4283، تهذيب الأسماء واللغات ج 1/ص 201.]، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل، فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال: أيها الناس. قوم تنازعوا وتهاووا وقد رزق اللَّه العافية. ثم قعدوا وعادوا في حديثهم وتراجعوا. وأفاق الرجلان فقال: أبكما حياة؟ قالا: قتلتنا غاشيتك [غاشيتك: أي الذين يترددون عليك. [القاموس المحيط، مادة: غشي].
] قال: لا يغشوني واللَّه أبدًا فاحفظا عليَّ ألسنتكما ولا تجرَّئا عليَّ الناس، ففعلا [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 31].
ولما انقطع أولئك النفر من ذلك، قعدوا في بيوتهم وأقبلوا على الإذاعة حتى لامه أهل [ص 129] الكوفة في أمرهم. فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن أحرك شيئًا فمن أراد أن يحرك شيئًا فليحركه، إن هؤلاء النفر لما قعدوا في بيوتهم تكلموا في حق الخليفة عثمان وشتموه.
وقيل: بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر [يسمر: يتحدَّث ليلًا. [القاموس المحيط، مادة: سمر].] عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب والأسود بن يزيد [هو الأسود بن يزيد بن قيس، النخعي، الكوفي، أبو عمرو، المتوفى سنة 75 هـ، تابعي فقيه من الحفاظ، كان عالم الكوفة في عصره، ثقة، مكثر. للاستزادة راجع: تذكرة الحُفَّاظ ج 1/ص 85، حلية الأولياء ج 2/ص 108، تهذيب الكمال ج 1/ص 301، تهذيب التهذيب ج 1/ص 66، تقريب التهذيب ج 1/ص 178، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 188، الكاشف ج 1/ص 200، تاريخ البخاري الكبير ج 1/ص 105، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 207، الجرح والتعديل ج 2/ص 178، الثقات ج 4/ص 310، الوافي بالوفيات ج 9/ص 222، طبقات الحفاظ ص 125، شذرات الذهب ج 1/ص 180، سير الأعلام ج 4/ص 118، البداية والنهاية ج 9/ص 205، نسيم الرياض ج 2/ص 236، أعيان الشيعة ج 3/ص 287، طبقات ابن سعد ج 9/ص 188.]، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر [هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي، المعروف بالأشتر، أمير من كبار الشجعان، كان رئيس قومه، أدرك الإسلام، أول من عرف عنه أنه حضر خطبة عمر في الجابية، سكن الكوفة، وكان له نسل فيها، كان ممن ألَّبَ على عثمان وحضر حصره في المدينة، شهد يوم الجمل، وأيام صفِّين مع علي، وولاَّه على مصر فقصدها، فمات في الطريق سنة 37 هـ، فقال علي: رحم اللَّه مالكًا، فلقد كان لي كما كنت لرسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وله شعر جيد، يُعد من الشجعان الأجواد، العلماء الفصحاء، الفصحاء. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 8343، التهذيب ج 10/ص 11، الولاة والقضاة 23، سمط الآلي 277، المؤتلف والمختلف 28، المرزباني 362، التبريزي ج 1/ص 75، دائرة المعارف الإسلامية ج 2/ص 210، المحبّر 233.
] وغيرهم. فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان قريش فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه اللَّه علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك، وتكلم القوم معه. فقال عبد الرحمن الأسدي وكان على شرطة سعيد ـ: أتردون على الأمير مقالته؟ وأغلظ عليهم. فقال الأشتر: مَنْ ههنا؟ لا يفوتنكم الرجل، فوثبوا عليه، فوطأوه وطًا شديدًا حتى غشي عليه. ثم جرّوه برجله فنضح بماء فأفاق. فقال: قتلتني من انتخبت. فقال: واللَّه لا يسمر عندي أحد أبدًا فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدًا. واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم.
ومن هنا يتضح أن الفتنة قد بلغت عندئذٍ حدًا عظيمًا في الكوفة فضعف مركز الوالي، ولم [ص 130] يقدر أن يؤدبهم، حتى اجترأوا أن يضربوا من رد عليهم ضربًا مبرحًا من غير أن يستطيع أن يبدي حراكًا ولما منع الاجتماع أخذوا يشتمونه ويشتمون الخليفة.
كتب أشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية. وكتب عثمان إلى معاوية: "إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرًا خلقوا للفتنة فرعهم وقم عليهم فإن آنست منهم رشدًا فاقبل منهم، وإن أعيوك فاردد عليهم."
فلما قدموا على معاوية رحب بهم، وأنزلهم كنيسة تسمى "مريم"، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل يتغدى ويتعشى معهم فقال لهم يومًا:
"إنكم قوم من العرب، لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم. وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا، وإن قريشًا لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم، إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة فلا تسدوا عن جنتكم. وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة. واللَّه لتنتهن أو ليبتلينكم اللَّه بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر، لم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعيَّة في حياتكم وبعد موتكم".
فقال رجل من القوم، وهو صعصعة:
"أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا. وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اختُرقت خُلص إلينا".
فقال معاوية: "عرفتكم الآن. علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلًا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكرك به وتذكرني الجاهلية، وقد وعظتك، وتزعم لما يجنك أنه يخترق إليك ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة. أخزى اللَّه أقوامًا أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم افقهوا ولا أظنكم تفقهون. إن قريشًا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا باللَّه عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا، ومحضهم أنسابًا وأعظمهم أخطارًا وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضًا إلا باللَّه الذي لا يُستذل من أعز، ولا يوضع من رفع، فبوَّأهم حَرَمًا آمنًا يُتَخَطف الناس من حولهم. هل تعرفون عربًا أو عجمًا أو سودًا أو حمرًا إلا قد أصابهم الدهر في بلدهم وحُرْمتهم بدولة إلا ما كان من قريش فإنه لم يُردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل اللَّه خده الأسفل حتى أراد اللَّه أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارهم قريشًا، ثم بُنيَ هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم. ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان اللَّه يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم باللَّه، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم. أف لك ولأصحابك. ولو أن [ص 131] متكلمًا غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت. فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، وأنتها نبتًا، وأعمقها واديًا، وأعرفها بالشر، وألأمها جيرانًا. لم يسكنها شريف قط، ولا وضيع إلا سُبَ بها وكانت عليه هُجْنَة [الهُجْنَة من الكلام: ما يلزمك منه العيب، تقول: "لا تفعل كذا فيكون عليك هجنة".] ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا، وألأمهم أصهارًا، نُزَّاع الأمم، وأنتم جيران الخط وفَعَلة فارس حتى أصابتكم دعوة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير في عمان لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فأنت شر قومك حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين اللَّه عِوَجًا وتنزع إلى اللامة والذلة ولا يضع ذلك قريشًا، ولن يضرهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم. إن الشيطان عنكم غير غافل. قد عرفكم بالشر من بين أمتكم فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاه اللَّه ولا أمرًا أراده اللَّه، ولا تدركون بالشر أمرًا إلا فتح عليكم شرًا منه وأخزى".
أرسل هؤلاء النفر الذين أحدثوا الشغب واللغط في الكوفة، وعابوا على سعيد بن العاص وعثمان إلى معاوية بالشام. وفي نظرنا أن سبب هذه الفتنة كما أورده الطبري وابن الأثير [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 30.] تافه لا يدعو إلى كل ما حدث. فقد ذكر أن عبد الرحمن بن خنيس وهو شاب قال: "واللَّه لوددت أن هذا الملطاط لك" يعني لسعيد أي ما كان لكسرى على جانب الفرات. فهذا الذي أثار ثائرتهم. شاب يتمنى أن تكون لسعيد بن العاص هذه الناحية من الفرات حتى يجود بمثل ما كان يجود به طلحة بن عبيد اللَّه. وقد كان سعيد كما ذكرنا في ترجمته كريمًا يقيم الولائم، ويتصدق على المصلين. غاظ هؤلاء القوم الذين كانوا يحضرون مجلس سعيد، وكان يخصهم بسمره أن يتمنى هذا الشاب ذلك. ولو أنه مجرد تمنٍ ومع هذا تعدوا عليه وضربوه وضربوا أباه. وقد توسَّل إليهم الوالي بجلالة قدره أن يتركوهما فلم يفد فأشبعوهما ضربًا. وكل ما قدر عليه سعيد أنه منع أن يتسامروا عنده بعد ذلك.
وذُكر سبب غير ذلك وهو قول سعيد: (إنما هذا السواد بستان قريش). فأغلظوا عليه القول، فغضب صاحب شرطته [هو عبد الرحمن الأسدي] ولامهم على ما كان منهم، فأوسعوه ضربًا حتى غشي عليه. فلا بد أن هؤلاء الذين قربهم سعيد كانوا يحقدون عليه ويتحيَّنون الفرص للانتقام منه، لكنه حسب حسابهم، ولم يعاقبهم بنفسه على تهوّرهم واعتدائهم ومخالفتهم أمره خشية اتساع الخرق واشتداد الفتنة، فكتب إلى الخليفة في شأنهم وفوَّض إليه الأمر. فلما ذهبوا إلى معاوية وهو كما [ص 132] نعلم قويٌّ في حكومته، ماهر في سياسته، وجدوا أنفسهم بمعزل عن أعوانهم، فأراد أن يكبح جماحهم ويوقفهم عند حدهم ويظهر لهم حقيقة أمرهم وماضيهم وحاضرهم بخطبته البليغة التي نشرناها. فوصفهم بقلة العقول وحقر من اتبعهم وعظمهم، لأنهم لا يستحقون التعظيم، وذلك فضل قريش في الجاهلية والإسلام على سائر القبائل العربية وفضل الإسلام عليهم، ثم وجه الخطاب إلى صعصعة، فقال: إن قريته شر القرى إلى آخر ما قال حتى أفرغ ما في جعبته، وأروى غُلته من غير خوف ولا وجل، ثم بالغ في الاحتقار بهم فإن قام بعد أن ألقى خطبته وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم. فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: "إني أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع اللَّه بكم أحدًا أبدًا ولا يضره. ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أرتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم".
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم:
"إني معيد عليكم أن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ كان معصومًا فولاَّني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاَّني. ثم استخلف عمر فولاَّني. ثم استخلف عثمان فولاَّني. فلم يولني أحد إلا وهو عني راضٍ".
وإنما طلب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ للأعمال أهل الجزاء من المسلمين والغنى، وأن اللَّه ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تتعرضوا للأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن اللَّه غير تارككم حتى يختبركم، ويبدي للناس سرائركم، وقد قال عز وجل: {الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2].
وكتب معاوية إلى عثمان:
"إنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون اللَّه بشيء ولا يتكلمون بحجة. إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، واللَّه مبتليهم ومختبرهم. ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فإنه سعيد ومن قبله عنهم فإنهم ليسوا الأكثر من شغب أو تكبر".
وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة فإنهم يشتمون بكم وميلوا بنا إلى الجزيرة ودعوا العراق والشام فأووا إلى الجزيرة وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان معاوية قد ولاَّه حمص وولَّى عامل الجزيرة حَرّان والرقَّة فدعا بهم فقال: "يا آلة الشيطان لا مرحبًا بكم ولا أهلًا، قد رجع الشيطان محسورًا وأنتم بعدُ نٍشَاط، خسَّر اللَّه عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم، يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون [ص 133] لمعاوية: أنا ابن خالد بن الوليد. أنا ابن مَنْ عجمته العاجمات. أنا ابن فاقئ الردة. واللَّه لئن بلغني يا صعصعة بن ذُل أن أحدًا ممن دق أنفك، ثم أمصّك لأطيرن بك طَيْرة بعيدة المهوى".
فأقامهم أشهرًا كلما ركب أمشاهم، فإذا مرَّ به صعصعة قال: "يا ابن الحطيئة [ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 34: "بابن الخطيئة".
] أعلمت أن من لم يُصلحه الخير أصلحه الشر. ما لك لا تقول كما كان يبلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية."
فيقولون: نتوب إلى اللَّه أقلنا أقالك اللَّه. فما زالوا به حتى قال: تاب اللَّه عليكم وسرح الأشتر إلى عثمان وقال لهم: ما شئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا.
وخرج الأشتر فأتى عثمان بالتوبة والندم والنزوع عنه، وعن أصحابه فقال: سلمكم اللَّه. وقدم سعيد بن العاص فقال عثمان للأشتر: احلل حيث شئت. فقال مع عبد الرحمن بن خالد، وذكر من فضله فقال: ذلك إليكم، فرجع إلى عبد الرحمن.
قد كان عبد الرحمن بن خالد أشد عليهم من معاوية، وقد تابوا على يديه.
وفي الطبري رواية أخرى، وهي أن معاوية بعد أن ألقى عليهم الخطبة السابقة عاد وقال لهم [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 636]:
"إني واللَّه ما آمركم بشيء إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصتي، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلا ما جعل اللَّه لنبيه نبي الرحمة ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فإن اللَّه انتخبه وأكرمه، فلم يخلق في أحد من الأخلاق الصالحة شيئًا إلا أصفاه اللَّه بأكرمها وأحسنها. ولم يخلق من الأخلاق السيئة شيئًا في أحد إلا أكرمه اللَّه عنها ونزهه. وإني لا أطن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازمًا".
وهنا نرى أن معاوية أطرى نفسه فقال صعصعة:
"كذبت وقد ولدهم خير من أبي سفيان، من خلقه اللَّه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له فكان فيهم البرَّ والفاجر والأحمق والكيَّس".
فخرج معاوية تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلًا ثم قال:
"أيها القوم ردوا عليَّ خيرًا، أو اسكتوا، وتفكَّروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المؤمنين فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم" [ص 134].
فقال صعصعة: "لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية اللَّه".
فقال معاوية: "أوَليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى اللَّه وطاعته وطاعة نبيه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أن تعتصموا بحبله جميعًا ولا تفرقوا".
قالوا: "بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ".
قال: "فإني آمركم الآن إن كنتُ فعلتُ فأتوب إلى اللَّه وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم".
فقال صعصعة: "فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن في المسلمين مَن هو أحق به منك".
فقال: "مَن هو؟".
قال: "مَن كان أبوه أحسن قدمًا من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدمًا منك في الإسلام".
فقال معاوية: "واللَّه إن لي في الإسلام قدمًا ولغيري كان أحسن قدمًا مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني. ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب. فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري. ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي. ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إليَّ بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى اللَّه أن يفعل ذلك لرجوتُ أن لا يعزم له على ذلك إلا وهو خير. فمهلًا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر. ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يومًا ولا ليلة. ولكن اللَّه يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره. فعاودوا الخير وقولوه".
فقالوا: "لست لذلك أهلًا..."
فقال: "أما واللَّه إن للَّه لسطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تحلكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم اللَّه في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل".
فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته فقال:
"مهَ، إن هذه ليست بأرض الكوفة. واللَّه لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم. فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضًا، ثم قام من عندهم فقال: "واللَّه لا أدخل عليكم ما بقيت" [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 638، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 35، إن هذا الأمر يستدعي الوقوف عنده وقفة شك، فكيف لهؤلاء الرهط أن يتطاولوا على عامل الخليفة وهو موكل بتأديبهم، لا سيما أن المعني بالأمر هو معاوية بن أبي سفيان] [ص 135]. ثم كتب إلى عثمان:
"بسم اللَّه الرحمن الرحيم. لعبد اللَّه عثمان أمير المؤمنين، من معاوية بن أبي سفيان. أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقوامًا يتكلمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم، ويأتون الناس، زعموا من قبل القرآن فيشبهون على الناس وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة.
قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقي الشيطان من قلوبهم. فقد أفسدوا كثيرًا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم فلتكن دارهم في مصرهم الذي جمَّ فيه نفاقهم والسلام".
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم إليه. فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا. وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم. فكتب عثمان إلى سعيد أن سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.، وكان أميرًا على حمص. وكتب إلى الأشتر وأصحابه:
"أما بعد، فإني قد سيرتكم إلى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرًا والسلام". فلما قرأ الأشتر الكتاب قال: "اللَّهم أسوأنا نظرًا للرعية وأعملنا فيهم بالمعصية، فعجل له النقمة". فكتب بذلك سعيد إلى عثمان.
وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل وأجرى لهم رزقًا.
لقد تطاول هؤلاء على معاوية وأمروه أن يتخلى عن مركزه لأن من المسلمين من هو أصلح منه، كما تطاولوا على سعيد من قبل وطعنوا على عثمان. وهم وإن كانوا من أشراف أهل العراق إلا أنهم أهل فتنة. وقد تسامح معهم معاوية كما تسامح معهم سعيد. ومن هذا يتبين مقدار الحرية التي كانت ممنوحة للرعية في ذلك الوقت فلم يؤخذوا ويحاكموا على أقوالهم ومطاعنهم إنما اكتفى بتسييرهم من بلد إلى آخر وأجرى عليهم عبد الرحمن بن خالد رزقًا.
خلو الكوفة من الرؤساء
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634 639]: [ص 136]. أذن معاوية لأهل الفتنة الذين أمر عثمان بتسييرهم إلى الشام أن يذهبوا أنى شاءوا، فتحدثوا فيما بينهم فقالوا: إن العراق والشام ليسَا لنا بدار فعليكم بالجزيرة فأتوها اختيارًا، فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد فسامهم الشدة كما ذكرناه وتابعوه وتابوا، وسرح الأشتر إلى عثمان فدعا به وقال: اذهب حيث شئت. فقال: أرجع إلى عبد الرحمن، فرجع.
ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان. وكان سعيد قد ولي قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى:
ـ1ـ الأشعث بن قيس [الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، أبو محمد، ولد سنة 23 ق. هـ. أمير كندة في الجاهلية والإسلام، كانت إقامته في حضرموت، وفد على النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعد ظهور الإسلام، في جمع من قومه، أسلم وشهد اليرموك، فأصيبت عينه، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض بطون كندة عن تأدية الزكاة، فتنحى والي حضرموت بمن بقي على الطاعة من كندة، وجاءته النجدة فحاصر حضرموت فاستسلم الأشعث وفتحت حضرموت عنوة، وأرسل الأشعث موثوقًا إلى أبي بكر المدينة ليرى فيه رأيه، فأطلقه أبو بكر وزوَّجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في حروب العراق، ولما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفِّين، على راية كندة، وحضر معه وقعة النهروان، وورد المدائن، ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها سنة 40 هـ على أثر اتفاق الحسن ومعاوية، كان من ذوي الرأي والإقدام، موصوفًا بالهيبة، هو أول راكب في الإسلام مشت معه الرجال يحملون الأعمدة بين يديه ومن خلفه. للاستزادة راجع: ابن عساكر ج 3/ص 64، الآمدي 45، تاريخ الخميس ج 2/ص 289، ثمار القلوب 69، ذيل المذيل 34، خزانة الأدب للبغدادي ج 2/ص 465، تاريخ بغداد ج 1/ص 196.
:أذربيجان].
ـ2ـ سعيد بن قيس [هو سعيد بن قيس بن زيد، من بني زيد بن مريب، من همدان، فارس من الأجواد الدهاة، من سلالة ملوك همدان، كان خاصًا بالإمام علي، قاتل معه يوم صفِّين، كان إليه أمر همدان بالعراق، وإليه ينسب السعيدين في بيت زُود باليمن. للاستزادة راجع: الإكليل ج 10/ص 46 50.] : الري.
ـ3ـ النُّسيَر العجلي [هو النُّسَيْر بن ديسم بن ثور بن عريجة بن ملحم بن هلال بن ربيعة، العجلي، من بني عجل بن لجيم، قائد، فاتح، أدرك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، شهد في عهد عمر الفتوح كلها والقادسية، وهو من تُنسب إليه قلعة النُسير قرب نهاوند، كانت من قلاع الفرس فاعتصم بها قوم منهم، أيام زحف العرب، حاصرها وفتحها فعرفت باسمه سنة 21 هـ، توفي سنة 35 هـ. للاستزادة راجع: التاج ج 3/ص 564، جَمْهرة الأنساب ص 295، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3/7، ياقوت في معجم البلدان ج 8/ص 287 288، الإصابة ترجمة 8810، الآمدي، المؤتلف والمختلف ص 61.] : همذان. [ص 137].
ـ4ـ السائب بن الأقرع : أصبهان.
ـ5ـ مالك بن حبيب : ماه.
ـ6ـ حكيم بن سلام الخزامي : الموصل.
ـ7ـ جرير بن عبد اللَّه : قرقيسيا.
ـ8ـ سلمان بن ربيعة : الباب.
ـ9ـ عتيبة بن النهاس : حُلوان.
ـ10ـ القعقاع بن عمرو [هو القعقاع بن عمرو التميمي، أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام، له صحبة، شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس، سكن الكوفة، وأدرك وقعة صفِّين مع علي بن أبي طالب، وكان يتقلَّد في أوقات الزينة سيف هرقل (ملك الروم) ويلبس درع بهرام (ملك الفرس) وهما مما أصابه من الغنائم في حروب فارس، وكان شاعرًا فحلًا، قال أبو بكر: "صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل"، توفي سنة 58 هـ. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ حوادث سنة 16 هـ، الإصابة ترجمة 7129.] : جعله على الحرب.
هؤلاء عشرة من الكبار أُرسلوا إلى جهات متعددة. ولو أنهم بقوا بالكوفة لكان لهم تأثير في منع ما عساه أن يحدث من الشغب والفتنة، ولكن سعيد بن العاص لم يكن يتوقع انتشار الفتنة فأرسلهم إلى هذه المراكز لأغراض حربية. وبذلك خلت الكوفة من الرؤساء.
عزل سعيد بن العاص
[المسعودي مروج الذهب ج 2/ص 346] وتولية أبي موسى الأشعري:
خرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، ومعه الذين كان يكاتبهم ابن السوداء [هو عبد اللَّه بن سبأ، وكان يهوديًا من جنوب بلاد العرب فأسلم واستفسد الناس على عثمان وبثَّ دعايته في الآفاق وتنقل في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر يدعو الناس للثورة.] فقال القعقاع بن عمرو: إنما نستعفي من سعيد: فقال يزيد: أما هذا فنعم، وكاتب المسيرين [وهم الذين سيَّرهم عثمان إلى معاوية ومنهم الأشتر وصعصعة.] [ص 138] ليقدموا عليه. فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن بن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس إلا والأشتر على باب المسجد مسجد الكوفة يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيدًا يريد علي نقصان نسائكم على مائة درهم ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين ويزعم أن فيئكم بستان قريش فاستخف الناس. وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم.
فخرج يزيد وأمر مناديًا ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل، فبقي أشرافهم وحلماؤهم في المسجد، وعمرو بن حُرَيث [عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشي، يكنى أبا سعيد، رأى النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وقيل: إنه أول قرشي اتخذ بالكوفة دارًا وكان من أغنى أهل الكوفة وولي لبني أمية بالكوفة.] يومئذٍ خليفة سعيد، فصعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه وأمرهم بالاستماع والطاعة. فقال له القعقاع: "أترد السيل عن أدراجه؟ هيهات، لا واللَّه لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تنتضي ويعجون هجيج العيدان، ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده اللَّه عليهم أبدًا فاصبر". قال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله.
وخرج يزيد بن قيس، فنزل الجرَعة وهي قريب من القادسية ومعه الأشتر فوصل إليهم سعيد بن العاص. فقالوا: لا حاجة لنا بك. قال: إنما يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلًا وإليَّ رجلًا. وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد. وجاء في الطبري نص الخطبة التي ألقاها عليهم عمرو بن حُرَيث نائب سعيد وهي كما يلي [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 642]:
{اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} [آل عمران: 103]، بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. فلا تعودوا في شر قد استنقذكم منه اللَّه عز وجل. أبعد الإسلام وهديه وسنته لا تعرفون حقًا وتصيبون بابه!".
ولما انصرف عنهم سعيد أحسوا بمولى لهم على بعير قد حسر. فقال: واللَّه ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر، ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البدل. وأنهم يختارون أبا موسى. قال: "أثبتنا أبا موسى عليهم وواللَّه لا نجعل لأحد عذرًا ولا نترك لهم حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى نبلغ ما يريدون".
وقد أراد عثمان بخلع سعيد وتنصيب أبي موسى أن تهدأ الفتنة ولا يكون لأحد بعد ذلك عذر أو شكوى. وكتب إليهم: [ص 139].
"أما بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، وواللَّه لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يُعصى اللَّه فيه إلا سألتموه، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصى اللَّه فيه إلا استعفيتم منه. أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على اللَّه حجة كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون".
ورجع من الأمراء من قرب عمله من الكوفة فرجع جرير من قرقيسياء. وعتيبة من حُلوان.
وقام أبو موسى الأشعري فتكلم بالكوفة فقال:
"أيها الناس لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله. ألزموا جماعتكم الطاعة وإياكم والعجلة. فأجابوه إلى ذلك. وقالوا: فصلِّ بنا، قال لا. إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان. قالوا: السمع والطاعة لعثمان.
رسول أهل الكوفة إلى عثمان
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39 42:].
اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلمه ويخبره بأحداثه فأرسلوا إليه عامر بن عبد اللَّه التميمي، وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فدخل عليه فقال: إن ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورًا عظامًا، فاتق اللَّه عز وجل، وتب إليه، وانزع عنها.
فقال عثمان: انظروا إلى هذا، فإن الناس يزعمون أنه قارئ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقَّرات، فواللَّه ما يدري أين اللَّه. قال عامر: أنا لا أدري أين اللَّه؟ قال: نعم، واللَّه ما تدري أين اللَّه. قال عامر: بلى واللَّه إني لأدري أن اللَّه بالمرصاد لك.
عثمان يجمع أهل الرأي ليشاورهم في الأمر
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39ـ 42.]:
أرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد اللَّه بن سعد بن أبي سُرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص، وإلى عبد اللَّه بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: [ص 140].
"إن لكل امرئ وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي، وأهل ثقتي، ولقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليَّ". فقال له عبد اللَّه بن عامر: "رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دَبَرة دابته وقمل فروه".
فقال عثمان: (إن هذا الرأي لولا ما فيه) خشي عثمان أن ينفذ رأي ابن عامر الذي يقضي بقطع دابر قادة الفتنة للخلاص من شرهم ودسائسهم.
ثم أقبل عثمان على معاوية فقال: ما رأيك؟
قال: "أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عُمالك على الكفاية لما قِبَلهم وأنا ضامن لك قِبَلي".
ثم أقبل على عبد اللَّه بن سعد فقال: ما رأيك؟
قال: "أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليهم قلوبهم".
ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟.
قال: "أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا وامض قُدمًا". فرأى عمرو أن عثمان لا يعدل فطلب إليه أن يعتزل أو يعدل ولا يتردد فقال عثمان: "ما لك قِملَ فروك. أهذا الجد منك؟".
فسكت عمرو حتى إذا تفرَّقوا قال: "لا واللَّه يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك. ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا أو أدفع عنك شرًا".
لكن كلام عمرو هذا من شأنه أن يزيد نار الفتنة والنقمة على عثمان اشتعالًا، لأنه قال بصريح العبارة ـ: "فاعتزم أن تعدل". ومعنى هذا أنه لا يعدل، فكيف يستطيع عمرو بعد ذلك أن يقود إلى عثمان خيرًا أو يدفع عنه شرًا؟!. ومعلوم أن عمرًا كان ساخطًا على الخليفة، لأنه عزله عن ولاية مصر بعد أن فتحها. ولما أحس عمرو بأنه كدَّر عثمان بقوله أمام هؤلاء النفر أراد أن يسترضيه على حدة فقال ما قال [ص 141].
رد عثمان بعد ذلك عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وأمرهما بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
علي بن أبي طالب يحادث عثمان في أمر الفتنة
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 644، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 43]. لما كانت سنة 34 هـ كتب أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعضهم إلى بعض أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى، ولا يذبُّ إلا زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع الناس وكلموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال: "الناس ورائي وقد كلَّموني فيك. واللَّه ما أدري ما أقول لك. وما أعرف شيئًا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خُصصنا بأمر دونك وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الخير منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك. وإنك أقرب إلى رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ رَحِمًا. ولقد نلت من صهر رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ما لم ينالا. ولا سبقناك إلى شيء. فاللَّه اللَّه في نفسك فإنك واللَّه ما تُبصَّر من عمَى ولا تُعَلَّم من جهل، وإن الطريق لواضح بيَّن، وإن أعلام الدين لقائمة. تَعلَّم يا عثمان أن أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل هُدِي وهَدَى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة. فواللَّه إن كُلاَّ لبيَّن، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرَّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضَلَّ وضُلَّ به فأمات سُنة معلومة وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقول: (يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتطم في غمرة جهنم) [رواه ابن كثير في البداية والنهاية (7: 168).
[وإني أحذرك اللَّه وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإن يقال يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتُلْبَس أمورها عليها، ويتركهم شِيَعًا فلا يبصرون لحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجًا ويمرحون مَرَحًا."
فقال عثمان: [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] "قد واللَّه علمت ليقولُنّ الذي قلتَ. أما واللَّه لو كنت مكاني ما عنفتك ولا [ص 142] أسلمتك ولا عبتُ عليك، ولا جئتُ منكرًا إن وصلتُ رَحمًا، وسددتُ خَلة، وآويت ضائعًا، ووليت شبيهًا بمن كان عمر يولي. أنشدك اللَّه يا عليُّ هل تعلم أن المغيرة بن شُعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أن عمر ولاه؟ قال: نعم. قال: فَلِمَ تلومني أن وليت ابن عامر في رَحمه وقرابته. قال عليُّ: سأخبرك، إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل. ضعفت ورفقت على أقربائك. قال عثمان: هم أقرباؤك أيضًا. فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرها. قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها؟ فقد وليته. فقال عليُّ: أنشدك اللَّه هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يَرفْأ غلام عمر منه. قال: نعم. قال عليّ: فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها. فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تُغير على معاوية.
ثم خرج عليُّ من عند عثمان، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر فقال:
خطبة عثمان في المسجد
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44].
"أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة: عيَّابون، طعَّانون، يرونكم ما تحبون ويُسرون ما تكرهون يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق. أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نَغصًا ولا يَرِدون إلا عكرًا، لا [لا" مثبتة في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، وزيدت اعتمادًا على نص الطبري في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب. ألا فقد واللَّه عبتم عليَّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله؟ وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدِنْتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولِنْتُ لكم وأوطأت لكم كففي [؟؟]، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليّ. أما واللَّه لأنا أعز نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثرًا عددًا وأقمن إن قلت هَلُم. أُتِيَ إليّ. ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولًا، وكشرت لكم عن نابي. وأخرجتم مني خُلُقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكفوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم مَن لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم. واللَّه ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن قبلي. ومَن لم تكونوا تختلفون عليه فضلَ فضْلٍ من مال. فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد. فَلِمَ كنت إمامًا" [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.] [ص 143].
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكَّمنا واللَّه بيننا وبينكم السيف. نحن واللَّه وأنتم كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم *** معارسكم تبنون في دِمن الثرى
فقال عثمان: اسكت لا سُكِّتّ. دعني وأصحابي. ما منطقك في هذا؟ ألم أتقدم إليك ألا تنطق؟ فسكت مروان ونزل عثمان. قال عثمان لعليٍّ: إنه عيَّن من عينَّهم عمر بن الخطاب، ومع ذلك لم يؤاخذه أحد. فعيَّن المغيرة ومعاوية، فكان ردُّ عليٍّ أن عمر كان لا يتسامح مع من ولاَّه إذا ارتكب شيئًا، وأن عثمان يعامل أقاربه بالرفق ولا يعاقبهم. هذا ملخص ما دار بينهما ـ. أما الخطبة التي ألقاها عثمان فلم يكن لها تأثير في تهدئة الفتنة، بل اشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه. ويلاحظ أن مروان يتداخل ويهدد الناس بالحرب بالرغم من أن عثمان كان قد أمره بلزوم الصمت. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:34 am | |
| الفصل السادس: قتل عثمان "ـ ونُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ ـ" (35 هـ/ 656 م)
قتل عثمان
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64] يوم الجمعة 8 من ذي الحجة سنة 35 هـ.
قال ابن عديس لأصحابه: لا تتركوا أحدًا يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده. وأصرَّ المصريون على قتله. وقصدوا الباب فمنعهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان، وسعيد بن العاص، ومن معهم من أبناء الصحابة. واجتلدوا [اجتلدوا: تضاربوا. [القاموس المحيط، مادة: جلد] ]، فزجرهم عثمان وقال: أنتم في حلٍّ من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب لمنعهم. فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء، وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن، فدخلوا، فأغلق الباب دون المصريين.
فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض وكان من الصحابة، فنادى عثمان، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلب الكندي بسهم فقتله. فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتله لنقتله به. قال: لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق، لا يقدرون على الدخول منه، فجاءوا بنار، فأحرقوه. وثار أهل الدار وعثمان يصلي قد افتتح {طه} [طه: 1]، فما شغله ما سمع ما يخطئ وما يتتعتع حتى أتى عليها. فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه وقرأ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] فقال لمن عنده بالدار: إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قد عهد إليَّ عهدًا فأنا صابر عليه. ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه.
اقتحم الناس الدار من الدورة التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب ممن وقفوا [ص 180] للدفاع. وأقبلت القبائل على أبنائهم فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم وندبوا رجلًا لقتله، فانتدب له رجل فدخل عليه البيت فقال: "اخلعها وندعك."
فقال: "ويحك، واللَّه ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيتُ ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ولست خالعًا قميصًا كسانيه اللَّه عز وجل، وأنا على مكاني حتى يُكرم اللَّه أهل السعادة ويُهين أهل الشقاء".
فخرج وقالوا: ما صنعت؟ فقال: عَلِقنا واللَّه، واللَّه ما ينجينا من الناس إلا قتله، وما يحل لنا قتله.
فأدخلوا عليه رجلًا من بني ليث. فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي. فقال: لست بصاحبي. قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فلن تضيع، فرجع وفارق القوم.
فأدخلوا عليه رجلًا من قريش، فقال: يا عثمان إني قاتلك؟. قال: كلا يا فلان لا تقتلني. قال: وكيف؟ قال: إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ استغفر لك يوم كذا وكذا، فلن تقارف دمًا حرامًا. فاستغفر ورجع وفارق أصحابه.
فأقبل عبد اللَّه بن سلام [هو عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، قيل: إنه من نسل يوسف بن يعقوب المتوفى سنة 43 هـ، أسلم عند قدوم النبي صلى اللَّه عليه وسلم المدينة، كان اسمه "حصين" فسمَّاه النبي صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه وفيه نزلت الآية: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} [الأحقاف: 10]. والآية: {ومن عنده علم الكتاب} [الرعد: 43]. وعندما قامت الفتنة بين علي ومعاوية اتخذ سيفًا من خشب واعتزلها. للاستزادة راجع: خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 124، الإصابة ج 3/ص 118، الاستيعاب ج 2/ص 311.] حتى قام على الباب ينهاهم عن قتله وقال:
"يا قوم، لا تسلّوا سيف اللَّه بينكم. فواللَّه إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرَّة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة اللَّه. واللَّه لئن قتلتموه لتتركنها" [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64].
فقالوا: يا ابن اليهودية، وما أنت وهذا فرجع عنهم.
وروي عن عبد اللَّه بن عمير عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال:
لما أُريد قتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ جاء عبد اللَّه بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرك. قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارج خير إليَّ منك داخل. فخرج عبد اللَّه إلى الناس فقال:
"أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلانًا، فسماني رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عبد اللَّه، ونزلت فيَّ [ص 181] آيات من كتاب اللَّه عز وجل. ونزل فيَّ: {وَشَهدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى مِثلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] ونزل فيَّ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} [الرعد: 43]. إن للَّه سيفًا مغمودًا، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فاللَّه اللَّه في هذا الرجل إن تقتلوه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلنّ سيف اللَّه المغمود فيكم، فلا يغمد إلى يوم القيامة، قالوا: اقتلوا اليهودي.
فانظر الفرق الشاسع بين عبد اللَّه بن سلام الذي تطوَّع للدفاع عن عثمان وبين عبد اللَّه بن سبأ الذي كان يحرَّض الناس على قتله. فإن كليهما كان يهوديًا وأسلم.
وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر. فقال له عثمان:
"ويلك على اللَّه تغضب؟ هل لي إليك جُرم إلا حق أخذته منك؟ ورجع.
فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حُمران والغافقي لعنهم اللَّه فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف فاستقر بين يديه، وسالت عليه الدماء. وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبت عليه زوجة عثمان نائلة، واتقت السيف بيدها، فتغمدها ونفح أصابعها. فأطن أصابع يدها، فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجيزة. وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وقد كان عثمان أعتق من كف منهم، فلما رأوا سودان قد ضربه أهوى له بعضهم، فضرب عنقه، فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت، وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68].
فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل مُلاءة نائلة، والرجل يدعى كلثوم بن تجيب، فتنحَّت نائلة. فقال: وَيحَ أمك من عجيزة ما أتمك، وبصر به غلام لعثمان فقتله، وقُتل، وتنادى القوم أبصر رجل من صاحبه وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم، وليس فيه إلا غِرارتان. فقالوا: النجاء، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا، فهربوا، وأتوا بيت المال، فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتانئ يسترجع ويبكي، والطارئ يفرح، وندم القوم.
وكان الزبير قد خرج من المدينة، فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله. فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو قال: "إنا للَّه وإنا إليه راجعون، رحم اللَّه عثمان وانتصر له". وأتى الخبر طلحة فقال: "رحم اللَّه عثمان وانتصر له وللإسلام". وقيل له: إن القوم نادمون. فقال: تبًَّا لهم، وقرأ: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِم يَرْجِعُونَ} [يس: 50] [ص 182].
وأُتِيَ عليٌّ فقيل: قُتل عثمان فقال: "رحم اللَّه عثمان وخلف علينا بخير". وقيل: ندم القوم فقرأ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ....} [الحشر: 16]. الآية. وطُلب سعد فإذا هو في حائطه وقد قال: لا أشهد قتله. فلما جاء قتله، قال: فررنا من المدينة فدنينا وقرأ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، اللَّهم أندمهم ثم خذهم [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676].
وفي رواية أخرى [الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص ، 677]
إن محمد بن أبي بكر تسوَّر على عثمان من دار عمرو بن حزم، ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب، وسودان بن حُمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة، وهو يقرأ في المصحف {سورة البقرة} فتقدمهم محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحية عثمان فقال:
قد أخزاك اللَّه يا نَعْثَل [نَعْثَل: هو اسم رجل قبطي كان بالمدينة، عظيم اللحية يشبهون به عثمان لعظيم لحيته، ولم يكونوا يجدون فيه عيبًا سوى هذا].
فقال عثمان: لستُ بنعثل، ولكن عبد اللَّه وأمير المؤمنين. فقال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان. فقال عثمان: يا ابن أخي دعْ عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك. فقال عثمان: أستنصر اللَّه عليك وأستعين به. ثم طعن جبينه بمِشْقَص [المشقص: سهم فيه نصل عريض. [القاموس المحيط، مادة: شقص].] في يده. ورفع كنانة بن بشر بن عتّاب مشاقص كانت في يده فَوَجَأَ بها [وَجَاءَ: أي ضرب] في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حَلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله. وقيل: ضرب كنانة بن بشر جبينه ومُقَدم رأسه بعمود، فخرَّ لجنبه. وضربه سودان بن حُمران المرادي بعد ما خرَّ لجنبه فقتله. وأما عمرو ابن الحَمِق [أسلم بعد الحديبية، صحب النبي صلى اللَّه عليه وسلم وحفظ عنه أحاديث، ثم جاء مصر وانتقل منها إلى الكوفة. قيل: إنه سقى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: اللَّهم متعه شبابه، فمرت عليه ثمانون سنة لا ترى في لحيته شعرة بيضاء. قال ابن الأثير في أسد الغابة: وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان الدار وصار بعد ذلك من شيعة عليّ. وقيل: أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق إلى معاوية] فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال: أما ثلاث منهن فإني طعنتهن للَّه. وأما ست فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه [ص 183].
وعن جدة الزبير بن عبد اللَّه قالت [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 671]:
لما ضربه المشاقص قال عثمان: "بسم اللَّه توكلت على اللَّه"، وإذا الدم يسيل على اللحية يقطر والمصحف بين يديه فاتكأ على شقه الأيسر وهو يقول: "سبحان اللَّه العظيم" وهو في ذلك يقرأ المصحف والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. وأطبق المصحف وضربوه جميعًا ضربة واحدة. فضربوه واللَّه بأبي وهو يحيي الليل في ركعة، ويصل الرحم، ويُطعم الملهوف، ويحمل الكَلَّ، فرحمه اللَّه".
وعن الزهري قال [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68].
قُتل عثمان عند صلاة العصر، وشدَّ عبدٌ لعثمان أسود على كنانة بن بشر فقتله. وشدَّ سودان على العبد فقتله. ودخلت الغوغاء دار عثمان فصاح إنسان منهم: أيحل دم عثمان ولا يحل ماله؟ فانتهبوا متاعه. فقامت نائلة فقالت: لصوص ورب الكعبة! يا أعداء اللَّه ما ركبتم من دم عثمان أعظم. أما واللَّه لقد قتلتموه صوَّامًا قوَّامًا يقرأ القرآن في ركعة. ثم خرج الناس من دار عثمان فأغلق بابه على ثلاثة قتلى:
ـ1ـ عثمان.
ـ2ـ وعبد عثمان الأسود.
ـ3ـ كنانة بن بشر.
وقد اختلف الرواة في حكاية محمد بن أبي بكر فذكر بعضهم أنه طعن جبين عثمان بمشقص كان في يده. وقيل: إن عثمان لما أمسك محمد لحيته قال له عثمان: أستنصر اللَّه عليك وأستعين به فتركه. وابن الأثير يرجح أنه تركه ولم يضربه.
وذكر ابن الأثير [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 67] أنهم أرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين، فصحن وضربن الوجوه. فقال ابن عديس: اتركوه. وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه وكسر ضلعًا من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن.
وبلغ الخبر عليًا وطلحة والزبير وسعدًا فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر حتى دخلوا على عثمان فقال عليّ لابنيه: كيف يقتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب، ورفع يده فلطم الحسن، وضرب الحسين على صدره. وشتم محمد بن طلحة وعبد اللَّه بن الزبير، وخرج وهو غضبان [ص 184] حتى أتى منزله فجاء الناس يهرعون إليه يريدون مبايعته فقال: "واللَّه إني لأستحي أن أبايع قومًا قتلوا عثمان، وإني لأستحي من اللَّه تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن". فافترقوا، وتمت البيعة له.
مروان ودفاعه عن عثمان
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 659، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 66]
لما ألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان فاحترق بعضها قال: ما احترق الباب إلا لما هو أعظم منه. لا يحركنَّ رجل منكم يده. فواللَّه لو كنت أقصاكم لتخطوكم حتى يقتلوني. ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري وإني لصابر كما عهد إليَّ رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لأصرعن مصرعي الذي كتب اللَّه عز وجل لي.
فقال مروان: واللَّه لا تقتل وأنا أسمع الصوت. ثم خرج بالسيف على الباب يتمثل بهذا الشعر:
قد علمتْ ذات القرون الميل *** والكف والأنامل الطفول
أبي أروع أول الرعيل *** بغارة مثل قَطا الشليل
ثم صاح: من يبارز وقد رفع أسفل درعه فجعله في منطقته، فوثب إليه ابن النباع، فضربه على رقبته من خلفه، فأثبته حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخل بيت فاطمة ابنة أوْس جدة إبراهيم بن العديّ وكانت أرضعت مروان، وأرضعت له. وفي رواية أن فاطمة وثبت على عبيد بن رفاع الذي أراد أن يجهز عليه بعد ضربة ابن النباع وقالت: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. فكفَّ عنه. فما زالوا يشكرونها لها فاستعملوا ابنها إبراهيم بعد.
فظاعة الجرم
لم يتوقع أحد من الصحابة أن يُقتل عثمان. أما الحسن والحسين ومن معهما فقد كانوا يحرسون بابه، ولكن القتلة تسوَّروا عليه من دار مجاورة لداره. لقد قتلوه قتلة شنيعة ترتعد منها الفرائص، ومثلوا به وهو يتلو القرآن، وكانت تلاوة القرآن نوعًا من العبادة، فضربه بعضهم بحديدة، وبعضهم ضربه بمشقص، وطعنه آخر بتسع طعنات، وكسر الآخر ضلعًا من أضلاعه. ولم يكتفوا بذلك بل تعدوا على امرأته المخلصة بالسيف وببذيء الكلام، وأرادوا قطع رأسه بعد أن فارق الحياة، ونهبوا أمتعة المنزل وما في بيت المال، ومنعوا عنه الماء أثناء الحصار حتى [ص 185] غضب عليّ وهالته قسوتهم، فقال لهم: "أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي."
لا أحد يبرز قتل عثمان والتمثيل به. ولم يجترئ عليه أحد من كبار الصحابة حتى المخالفين له في الرأي، لأنهم كانوا يجلُّونه، ويوقرونه، لمكانه من رسول اللَّه، وأياديه البيضاء في سبيل الإسلام، وحسن أخلاقه، وعواطفه، وسائر فضائله التي لا ينكرها أحد.
لا شك أن هؤلاء القتلة مجرمون، غلاظ الأكباد، قساة القلوب. فلم يراعوا حرمة صحبته للرسول، وصهره، ومنزلته في الإسلام، وخدماته الجليلة، وبذل الأموال الطائلة لنصرته ورفعته، ولم يخجلوا من التهجم على رجل فاضل قال عنه رسول اللَّه: (إن الملائكة تستحي منه) [رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: 26، وأحمد في(م 6/ص 155).]. رجل سهل، لين، كريم، كفَّ يده، ونهى عن سفك دم المسلمين، وهو محاصر أشد الحصار، مهدد بالقتل، وكان مثال الصالحين، والقراء للقرآن، وعاش محببًا للناس لا يميل إلى الشدة والعنف، لقد فتكوا به وهو قابع في بيته، يتعبد بتلاوة القرآن، ونهى أصحابه حتى عن الدفاع عنه. فأيِّ قلب لا يتفطر، وأيِّ دمع لا ينهمر، وأيِّ فؤاد لا يذوب كمدًا وأسى على قتل الخليفة الصالح من غير أن يرتكب إثمًا يوجب القتل.
إن الذي جنى على عثمان وبغَّضه في الناس هم كما قلنا وقال غيرنا من كبار المؤرخين المحققين أقاربه الذين كان يحسن إليهم، فإنهم كانوا مستشاري سوء، ولم يكن لهم رأي صائب ونظر بعيد، وكانوا مع ذلك يصرفونه حسب أغراضهم وأهوائهم لا حسب ما تقضي به مصلحة المسلمين عامة. وقد ظل عثمان كما قبل ست سنوات في بدء حكمه وهو أحب الناس إلى الناس. فلو أنه ترك وشأنه يدبر الأمور بطبيعته الخيّرة الهادئة التي لا تميل إلى الشدة والقسوة والتعدي، وبلطفه وأدبه وإحسانه وبما اشتهر عنه أيام الرسول لما شكا منه شاك، بل لكان عهده عهد خير وسلام. لكن أقاربه قد تمكَّن منهم حب الذات والجشع، فانتهزوا فرصة خلافته، واستغلوا صفة حميدة فيه ألا وهي صلة الرحم، فكانوا يأتونه من هذه الجهة لينالوا مأربهم من ولاية وثراء واستئثار بالحكم، وقد تحكَّموا فيه زمن شيخوخته فلم يقوَّ على مقاومتهم وخلافهم. فكان ما كان من سفك دمه وبث بذور الفتن والشقاق.
قال جيبون في كتاب سقوط الإمبراطورية الرومانية: "إن عثمان اختار فخُدع، ووثق فغُدر، وصار من كان موضع ثقته عديم الفائدة وعدوًا لحكومته، وانقلب إحسانه جورًا وتذمرًا".
قتلة عثمان وخاذلوه
أجمع أهل السنة على أن عثمان كان إمامًا على شرط الاستقامة إلى أن قُتل. وأجمعوا على أن قاتليه قتلوه ظلمًا، فإن كان فيهم من استحل دمه فقد كفر. ومن تعمد قتله من غير استحلال كان فاسقًا غير كافر. والذين هجموا عليه واشتركوا في دمه معروفون بقطع بفسقهم، منهم محمد بن أبي بكر، ورفاعة بن رافع، والحجاج بن غزنة، وعبد الرحمن بن خصل الجمحي، وكنانة بن بشر النخعي، وسندان بن حمران المرادي، وبسرة بن رهم، ومحمد بن أبي حذيفة، وابن عتيبة، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
وأما الذين قعدوا عن نصرة عثمان فهم فريقان: فريق كانوا معه في الدار فدفعوا عنه كالحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمر، والمغيرة بن الأخنس، وسعيد بن العاص، وسائر من كان في الدار من موالي عثمان، إلى أن أقسم عليهم بترك القتال وقال لغلمانه: "من وضع السلاح فهو حر". فهؤلاء أهل طاعة وبر وإحسان. والفريق الثاني من القعدة عن نصرته فريقان: فريق أرادوا نصرة عثمان فنهاهم عثمان عنها، كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد اللَّه بن سلام. فهؤلاء معذورون لأنهم قعدوا عنه بأمره. والفريق الثاني: قوم من السوقة أعانوا الهاجمين فشاركوهم في الفسق واللَّه حسبهم.
ودليلنا على براءة عثمان مما قذف به ورود الروايات الصحيحة بشهادة الرسول له ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بالجنة عند تجهيز جيش العسرة، وما روي من أنه يدخل الجنة بلا حساب، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن. وقد روي أن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ صعد جبل حراء، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال: (اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد) رواه الدارقطني في (ج 4/ص 198).. وفي هذا دليل على أن عثمان قُتل شهيدًا، ودليل صحة إمامته إجماع الأمة بعد عمر أن الإمامة لواحد من أهل الشورى وكانوا ستة، فاجتمع خمسة عليه فحصل إجماع الأمة على إمامته [أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي. أصول الدين (م 1/ص 287 289)، ط 1، استنابول سنة 1346 هـ 1928 م.].
كتاب نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية
كتبت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ إلى معاوية كتابًا مع النعمان بن بشير وبعثت إليه بقميص عثمان مخضبًا بالدماء. وهذا هو نص كتابها:
من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان [ص 187].
"أما بعد، فإني أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة. وأنقذكم من الكفر. ونصركم على العدو. وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم فإنه قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فإن أمير المؤمنين بُغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب اللَّه وصدق كتابه، واتبع رسوله، واللَّه أعلم به، إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة! وإني أقص عليكم خبره. إني شاهدة أمره كله. إن أهل المدينة حصروه في داره، وحرسوه ليلهم ونهارهم، قيامًا على أبوابه بالسلاح يمنعونه من كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وطلحة والزبير فأمروهم بقتله. وكان معهم من القبائل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب. فهؤلاء كانوا أشد الناس عليه. ثم إنه حصر، فرشق بالنبل، فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر. فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم فردوها عليهم. فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة وفي الأمر إلا إغراقًا فحرقوا باب الدار. ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا: إن ناسًا يريدون أن يأخذوا من الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد يأتوك فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية. فقال: ما أرى اليوم أحدًا يعدل. فدخل الدار وكان معهم نفر ليس على عامتهم سلاح. فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست اليوم درعي. فوثب عليه القوم فكلَّمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقًا في صحيفة بعث بها إلى عثمان. عليكم عهد اللَّه وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلّموه وتخرجوا. فوضع السلاح، ودخل عليه القوم يقدمهم محمد بن أبي بكر. فأخذ بلحيته ودعوا باللقب. فقال: أنا عبد اللَّه وخليفته عثمان فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه، قد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي فوطئنا وطئًا شديدًا عُرِّينا من حلينا وحرمة أمير المؤمنين أعظم. فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهورًا على فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه فإنه واللَّه إن كان أثم من قتله فما سلم من خذله. فانظروا أين أنتم من اللَّه، وأنا أشتكي كل ما مسنا إلى اللَّه عز وجل وأستصرخ بصالحي عباده. فرحم اللَّه عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفى منهم الصدور".
فحلف رجال من أهل الشام أن لا يمسوا غسلًا حتى يقتلوا عليًّا أو تفنى أرواحهم.
وهذا كتاب طويل ذكرت فيه زوجة عثمان تفاصيل قتله بعد أن فجعت بفقده، لكنها لم [ص 188] تذكر أسماء من باشروا القتل. وقد كانت نائلة من أخلص المخلصين لزوجها، ودافعت عنه بقدر طاقتها، وعرضت نفسها للقتل. وهكذا فليكن الوفاء والإخلاص. وقد حرضت معاوية والمسلمين بهذا الكتاب على الأخذ بالثأر.
موقف علي ـ رضي اللَّه عنه ـ إزاء قتل عثمان
كان علي ـ رضي اللَّه عنه ـ أحد الستة الذين رشَّحهم عمر بن الخطاب للخلافة بعده. وقد بايع عبد الرحمن بن عوف عثمان بناء على ما اجتمع إليه من رأي أصحاب رسول اللَّه وأمراء الأجناد وأشراف الناس.
فقال عمار: إن أردت ألاَّ يختلف المسلمون فبايع عليًا. فقال المقداد ابن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليًا قلنا سمعنا وأطعنا. وقال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد اللَّه بن أبي ربيعة: صدق، إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح وقال: ومتى كنت تنصح المسلمين.
وأخيرًا بايع عثمان فاستاء عليّ وقال: حبوته حبو دهر. ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا يعني بني أمية فصبر جميل واللَّه المستعان على ما تصفون. واللَّه ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك. واللَّه كل يوم هو في شأن.
فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلًا فإني نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
بايع عبد الرحمن عثمان لأنه كما قال نظر وشاور وهو مع ذلك صهر عثمان، وكان لعلي رجال يؤيدونه، لكنه سكت بعد ذلك وأطاع. وكان عثمان يعرف قدره ويقدر رأيه غير أنه تركه ولم يقلده ولاية ما، فلما اشتدت الفتنة لجأ إليه يستشيره ويستنجد به ليرد عنه عادية الأعداء فبذل له من النصح أخلصه فلم يعمل بنصحه لتسلط حاشيته ومستشاريه عليه وقد كانوا يبغضونه في علي خشية أن يطيعه فيفسد عليهم سياستهم وتدابيرهم.
لم يكن عليّ يتحامل على عثمان بل كان يجلّه لقد قال له وهو يحدثه في أمر الفتنة:
"واللَّه ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئًا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك. وقد رأيت وسمعت صحبت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ونلت صهره إلخ."
ثم أظهر له علي موضع ضعفه وسبب شكوى الناس فقال:
"ضعفت، ورفقت على أقربائك". وقال: "إن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تغيّر على معاوية" [ص 189].
ولما ذهب عثمان إلى عليّ في بيته يسأله أن يرد المصريين عنه قال له: "قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج وتقول، ثم ترجع عنه وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد اللَّه بن سعد. فإنك أطعتهم وعصيتني". فقال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك. فركب عليّ وردَّ عنه المصريين.
ولما خطب عثمان وتاب، ثم خرج مروان وشتم الناس وأفسد عليه توبته غضب علي وحق له أن يغضب نصحته زوجته نائلة أن يستصلحه.
ثم طلب عثمان المهلة ثلاثة أيام وأكد لعليّ أنه يعطيهم الحق من نفسه ومن غيره. فخرج فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتابًا أجله فيه ثلاثًا على أن يرد كل مظلمة ويعزل كل عامل كرهوه. فكف المسلمون عنه، ورجعوا، إلا أنه كان قد طلب الأجل انتظارًا للمدد من الأمصار حتى إذا قدموا وأنس القوة حاربهم، كما أوحى إليه مروان بن الحكم. وما كان عليّ يدري شيئًا من ذلك بل كان يحسب أنه إنما طلب الأجل ليتسنى له إجابتهم إلى ما يريدون في هذه المدة، لأنه قال له: "اضرب بيني وبينهم أجلًا يكون فيه مهلة فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد". ومضت الأيام الثلاثة ولم يغيّر شيئًا. وعدا ذلك أمر عليّ ابنه وأبناء الصحابة أن يحرسوا باب عثمان، فماذا يصنع عليّ بعد ذلك؟. وماذا كان في طاقته؟.
وعن شداد بن أوس قال: لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار أشرف على الناس فقال: يا عباد اللَّه. قال: فرأيت عليّ بن أبي طالب خارجًا من منزله معتمًا بعمامة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ متقلدًا سيفه. أمامه الحسن وعبد اللَّه بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار حتى حملوا على الناس وفرَّقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال له عليّ: السلام عليك يا أمير المؤمنين إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر وإني لا أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل. فقال عثمان: أنشد اللَّه رجلًا رأى للَّه حقًا وأقرَّ أن لي عليه حقًا أن يهريق في سببي ملء محجمة من دم أو يهريق دمه فيَّ. فأعاد عليّ عليه القول، فأجابه بمثل ما أجابه، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا: يا أبا الحسن تقدَّم فصلِّ بالناس فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلَّى وحده وانصرف إلى منزله إلخ.
وأخذ علي يبحث عن قتلة عثمان فسأل امرأته فقالت: لا أدري، إلا أن دخل عليه محمد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما فدعا محمدًا وسأله، قال واللَّه لم تكذب دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا تائب للَّه.
وجميع الروايات تثبت براءة عليّ ـ رضي اللَّه عنه ـ من دم عثمان.
رؤيا عثمان
[ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 195]: [ص 190]
عن عبد اللَّه بن سلام أنه قال:
أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال: مرحبًا بأخي مرحبًا بأخي. أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقال: بلى. قال: رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في هذه الخَوْخة [الخوخة: كوَّة يدخل منها الضوء إلى البيت] وإذا خوخة في البيت. فقال: أحصروك؟ فقلت: نعم. فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم. فأدلى لي دلوًا من ماء فشربت حتى رويت فإني لأجد بردًا بين كتفيَّ وبين بدني. إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا. قال: فاخترت أن أفطر عندهم. قال: فقتل عثمان في ذلك اليوم.
وعن مسلم عن أبي سعيد مولى عثمان، أن عثمان أعتق عشرين مملوكًا، ودعا بسراويل، فشدَّها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام. قال: إني رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ البارحة وأبا بكر وعمر فقالوا لي: صبرًا، فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه.
عن ابن عمر أن عثمان أصبح يحدث الناس. قال: رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في المنام. قال: يا عثمان أفطر عندنا غدًا فأصبح صائمًا وقتل من يومه. واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا فكانت مرة نهارًا ومرة ليلًا.
وصيته
عن العلاء بن الفضل عن أمه. قال: لما قُتل عثمان فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقًا مقفلًا ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوبًا فيها:
"هذه وصية عثمان: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن اللَّه يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه. إن اللَّه لا يخلف الميعاد. عليها يُحيى وعليها يموت. وعليها يُبعث إن شاء اللَّه".
آخر خطبة لعثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672]:
ذكر الطبري آخر خطبة خطبها عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ في جماعة:
"إن اللَّه عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها. إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى. فلا تُبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على [ص 191] ما يفنى. فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى اللَّه. اتقوا اللَّه عز وجل فإن تقواه جُنة من بأسه ووسيلة عنده.
واحذروا من اللَّه الغِيرَ والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابًا {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
دفن عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 687، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 69]:
قيل: بقي عثمان ثلاثة أيام لم يدفن، ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم، كلَّما عليًا في أن يأذن في دفنه، فقعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم، وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطًا من حيطان المدينة يسمى حَش كوكب [الحش: البستان. وحَش كوكب: موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة]. وهو خارج البقيع فصلَّى عليه جبير بن مطعم، وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه، ثم تركوهم خوفًا من الفتنة.
وعن الربيع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه قال: كنت أحد حملة عثمان بن عفان حين توفي حملناه على باب، وإن رأسه يقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمرًا عظيمًا، حتى واريناه في قبره في حش كوكب.
وأرسل عليّ إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه.
ونزل في قبره، بيان وأبو جهم وحبيب، وقيل: شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وعامة من أصحابه.
وعن الحسن قال: شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه، وفي البخاري أنه لم يغسل.
مدة حياته
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 689]:
كانت مدة حياة عثمان على المشهور 82 سنة. قال الواقدي: لا خلاف عندنا أنه قُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وهو قول أبي اليقظان.
خطبة علي عليه السلام عند بيعته بعد مقتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ
[ابن قتيبة، عيون الأخبار (م 2/ص 236]: [ص 192]
"أيها الناس، كتاب اللَّه وسنة نبيكم، لا يدَّع مدعٍ إلا على نفسه. شُغِلَ الجنةُ والنارُ أمامه. ساعٍ نجا. وطالبٌ يرجو. ومقصرٌ في النار، ثلاثة واثنان: ملَك طار بجناحيه، ونبي أخذ اللَّه بيديه، لا سادسَ. هلك من اقتحم. وردِيَ من هوى. واليمين والشمال مضلَة، الوسطى الجادَّةُ: منهج عليه باقٍ: الكتاب وآثار النبوة. إن اللَّه أدَّب هذه الأمة بأدبين: السوطِ والسيفِ، فلا هوادة فيهما عند الإمام. فاستتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت أمور ملتم علي فيها مَيلة لم تكونوا عندي محمودين ولا مصيبين. واللَّه أن لو أشاء أن أقول لقلت. عفا اللَّه عما سلف. انظروا، فإن أنكرتم فأنكروا وإن عَرَفتم فاروُوا. حق وباطل ولكل أهل، واللَّه لئن أمِّر الباطل لقديمًا فعل. ولئن أمر الحق لَرُبَّ ولعل. ما أدبر شيء فأقبل".
عمال عثمان سنة وفاته
[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 75]:
قتل عثمان بن عفان ـ رضي اللَّه عنه ـ وعماله على الأمصار كما يلي:
ـ1ـ عبد اللَّه بن الحضرمي على مكة.
ـ2ـ القاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف.
ـ3ـ يعلى بن منية على صنعاء.
ـ4ـ عبد اللَّه بن ربيعة على الجند.
ـ5ـ عبد اللَّه بن عامر على البصرة، خرج منها ولو يول عليها عثمان.
ـ6ـ سعيد بن العاص على الكوفة.
ـ7ـ عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح على مصر.
ـ8ـ معاوية بن أبي سفيان على الشام.
ـ9ـ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص.
ـ10ـ حبيب بن مسلمة على قنسرين.
ـ11ـ أبو الأعور بن سفيان على الأردن.
ـ12ـ علقمة بن حكيم الكناني على فلسطين.
ـ13ـ عبد اللَّه بن قيس الفزاري على البحرين.
ـ14ـ أبو الدرداء على القضاء [ص 193].
ـ15ـ جرير بن عبد اللَّه على قرقيسياء.
ـ16ـ الأشعث بن قيس على أذربيجان.
ـ17ـ عتيبة بن النهاس على حُلوان.
ـ18ـ مالك بن حبيب على ماه.
ـ19ـ النسَير على همذان.
ـ20ـ سعيد بن قيس على الرَّيِّ.
ـ21ـ السائب بن الأقرع على أصبهان.
ـ22ـ حبيش على ماسبذان.
ـ23ـ عقبة بن عمرو على بيت المال.
ـ24ـ زيد بن ثابت على قضاء عثمان.
فتوح المسلمين في خلافة عثمان
حكم عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ اثني عشر عامًا وكانت خلافته فتحًا وفوزًا للمسلمين امتدت سطوتهم إلى بلاد النوبة في مصر واتصلت بحدود الهند حتى ضربت النقود الإسلامية على ما قيل بهراة، وأنشؤوا الأساطيل بعد أن لم يكن لهم سفينة واحدة في البحر وغزوا الجزر، وحاربوا في البحر، وزادت هيبتهم في نفوس الدول الأخرى، ولا سيما الروم، وفتح المسلمون شمالي أفريقية، وقتلوا آخر ملك للفرس وغزوا الترك، وواصلوا الفتوح حتى القوقاز مجتازين الفيافي والقفار والجبال، واستولوا على جزيرة قبرس ورودس، واستأذن معاوية بفتح القسطنطينية فأذن له فسار إليها ورجع عنها بعد أن حاصرها مدة.
تمت كل هذه الفتوح العظيمة بسرعة مدهشة لم يعهدها التاريخ من قبل بالرغم من الفتن الداخلية والنقمة على عثمان، وبالرغم من لين الخليفة وشدّة حياته، لأن المسلمين كانوا يجاهدون في سبيل اللَّه بقوة إيمانهم وقد ذاقوا حلاوة الفتح والنصر والغنائم، فلم يكن يعوقهم عن الفتح عائق. وقد قامت هذه الفتوح على يد الولاة الذين ولاَّهم عثمان أمثال الوليد وسعيد بن العاص وعبد اللَّه بن عامر وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح ومعاوية. فلا غرو إذا قلنا إن عهد عثمان كان عهد فوز للمسلمين كانت هذه الفتوح العظيمة سببًا في اتساع الدنيا على الصحابة. فكثرت الأموال حتى كان الفَرس يُشترى بمائة ألف، وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة ألف درهم، وكانت المدينة عامرة كثيرة الخيرات والأموال والناس يجبى إليها خراج الممالك وهي دار الأمان، وقبة الإسلام، فبطر لناس بكثرة الأموال والخيل والنعم وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا. ثم أخذوا ينقمون على خليفتهم. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:36 am | |
| الفصل السادس: قتل عثمان "ـ ونُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ ـ" (35 هـ/ 656 م)
قتل عثمان
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64] يوم الجمعة 8 من ذي الحجة سنة 35 هـ.
قال ابن عديس لأصحابه: لا تتركوا أحدًا يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده. وأصرَّ المصريون على قتله. وقصدوا الباب فمنعهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان، وسعيد بن العاص، ومن معهم من أبناء الصحابة. واجتلدوا [اجتلدوا: تضاربوا. [القاموس المحيط، مادة: جلد] ]، فزجرهم عثمان وقال: أنتم في حلٍّ من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب لمنعهم. فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء، وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن، فدخلوا، فأغلق الباب دون المصريين.
فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض وكان من الصحابة، فنادى عثمان، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلب الكندي بسهم فقتله. فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتله لنقتله به. قال: لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق، لا يقدرون على الدخول منه، فجاءوا بنار، فأحرقوه. وثار أهل الدار وعثمان يصلي قد افتتح {طه} [طه: 1]، فما شغله ما سمع ما يخطئ وما يتتعتع حتى أتى عليها. فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه وقرأ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] فقال لمن عنده بالدار: إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قد عهد إليَّ عهدًا فأنا صابر عليه. ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه.
اقتحم الناس الدار من الدورة التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب ممن وقفوا [ص 180] للدفاع. وأقبلت القبائل على أبنائهم فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم وندبوا رجلًا لقتله، فانتدب له رجل فدخل عليه البيت فقال: "اخلعها وندعك."
فقال: "ويحك، واللَّه ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيتُ ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ولست خالعًا قميصًا كسانيه اللَّه عز وجل، وأنا على مكاني حتى يُكرم اللَّه أهل السعادة ويُهين أهل الشقاء".
فخرج وقالوا: ما صنعت؟ فقال: عَلِقنا واللَّه، واللَّه ما ينجينا من الناس إلا قتله، وما يحل لنا قتله.
فأدخلوا عليه رجلًا من بني ليث. فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي. فقال: لست بصاحبي. قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فلن تضيع، فرجع وفارق القوم.
فأدخلوا عليه رجلًا من قريش، فقال: يا عثمان إني قاتلك؟. قال: كلا يا فلان لا تقتلني. قال: وكيف؟ قال: إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ استغفر لك يوم كذا وكذا، فلن تقارف دمًا حرامًا. فاستغفر ورجع وفارق أصحابه.
فأقبل عبد اللَّه بن سلام [هو عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، قيل: إنه من نسل يوسف بن يعقوب المتوفى سنة 43 هـ، أسلم عند قدوم النبي صلى اللَّه عليه وسلم المدينة، كان اسمه "حصين" فسمَّاه النبي صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه وفيه نزلت الآية: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} [الأحقاف: 10]. والآية: {ومن عنده علم الكتاب} [الرعد: 43]. وعندما قامت الفتنة بين علي ومعاوية اتخذ سيفًا من خشب واعتزلها. للاستزادة راجع: خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 124، الإصابة ج 3/ص 118، الاستيعاب ج 2/ص 311.] حتى قام على الباب ينهاهم عن قتله وقال:
"يا قوم، لا تسلّوا سيف اللَّه بينكم. فواللَّه إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرَّة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة اللَّه. واللَّه لئن قتلتموه لتتركنها" [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64].
فقالوا: يا ابن اليهودية، وما أنت وهذا فرجع عنهم.
وروي عن عبد اللَّه بن عمير عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال:
لما أُريد قتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ جاء عبد اللَّه بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرك. قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارج خير إليَّ منك داخل. فخرج عبد اللَّه إلى الناس فقال:
"أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلانًا، فسماني رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عبد اللَّه، ونزلت فيَّ [ص 181] آيات من كتاب اللَّه عز وجل. ونزل فيَّ: {وَشَهدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى مِثلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] ونزل فيَّ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} [الرعد: 43]. إن للَّه سيفًا مغمودًا، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فاللَّه اللَّه في هذا الرجل إن تقتلوه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلنّ سيف اللَّه المغمود فيكم، فلا يغمد إلى يوم القيامة، قالوا: اقتلوا اليهودي.
فانظر الفرق الشاسع بين عبد اللَّه بن سلام الذي تطوَّع للدفاع عن عثمان وبين عبد اللَّه بن سبأ الذي كان يحرَّض الناس على قتله. فإن كليهما كان يهوديًا وأسلم.
وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر. فقال له عثمان:
"ويلك على اللَّه تغضب؟ هل لي إليك جُرم إلا حق أخذته منك؟ ورجع.
فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حُمران والغافقي لعنهم اللَّه فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف فاستقر بين يديه، وسالت عليه الدماء. وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبت عليه زوجة عثمان نائلة، واتقت السيف بيدها، فتغمدها ونفح أصابعها. فأطن أصابع يدها، فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجيزة. وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وقد كان عثمان أعتق من كف منهم، فلما رأوا سودان قد ضربه أهوى له بعضهم، فضرب عنقه، فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت، وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68].
فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل مُلاءة نائلة، والرجل يدعى كلثوم بن تجيب، فتنحَّت نائلة. فقال: وَيحَ أمك من عجيزة ما أتمك، وبصر به غلام لعثمان فقتله، وقُتل، وتنادى القوم أبصر رجل من صاحبه وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم، وليس فيه إلا غِرارتان. فقالوا: النجاء، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا، فهربوا، وأتوا بيت المال، فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتانئ يسترجع ويبكي، والطارئ يفرح، وندم القوم.
وكان الزبير قد خرج من المدينة، فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله. فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو قال: "إنا للَّه وإنا إليه راجعون، رحم اللَّه عثمان وانتصر له". وأتى الخبر طلحة فقال: "رحم اللَّه عثمان وانتصر له وللإسلام". وقيل له: إن القوم نادمون. فقال: تبًَّا لهم، وقرأ: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِم يَرْجِعُونَ} [يس: 50] [ص 182].
وأُتِيَ عليٌّ فقيل: قُتل عثمان فقال: "رحم اللَّه عثمان وخلف علينا بخير". وقيل: ندم القوم فقرأ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ....} [الحشر: 16]. الآية. وطُلب سعد فإذا هو في حائطه وقد قال: لا أشهد قتله. فلما جاء قتله، قال: فررنا من المدينة فدنينا وقرأ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، اللَّهم أندمهم ثم خذهم [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676].
وفي رواية أخرى [الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص ، 677]
إن محمد بن أبي بكر تسوَّر على عثمان من دار عمرو بن حزم، ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب، وسودان بن حُمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة، وهو يقرأ في المصحف {سورة البقرة} فتقدمهم محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحية عثمان فقال:
قد أخزاك اللَّه يا نَعْثَل [نَعْثَل: هو اسم رجل قبطي كان بالمدينة، عظيم اللحية يشبهون به عثمان لعظيم لحيته، ولم يكونوا يجدون فيه عيبًا سوى هذا].
فقال عثمان: لستُ بنعثل، ولكن عبد اللَّه وأمير المؤمنين. فقال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان. فقال عثمان: يا ابن أخي دعْ عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك. فقال عثمان: أستنصر اللَّه عليك وأستعين به. ثم طعن جبينه بمِشْقَص [المشقص: سهم فيه نصل عريض. [القاموس المحيط، مادة: شقص].] في يده. ورفع كنانة بن بشر بن عتّاب مشاقص كانت في يده فَوَجَأَ بها [وَجَاءَ: أي ضرب] في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حَلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله. وقيل: ضرب كنانة بن بشر جبينه ومُقَدم رأسه بعمود، فخرَّ لجنبه. وضربه سودان بن حُمران المرادي بعد ما خرَّ لجنبه فقتله. وأما عمرو ابن الحَمِق [أسلم بعد الحديبية، صحب النبي صلى اللَّه عليه وسلم وحفظ عنه أحاديث، ثم جاء مصر وانتقل منها إلى الكوفة. قيل: إنه سقى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: اللَّهم متعه شبابه، فمرت عليه ثمانون سنة لا ترى في لحيته شعرة بيضاء. قال ابن الأثير في أسد الغابة: وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان الدار وصار بعد ذلك من شيعة عليّ. وقيل: أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق إلى معاوية] فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال: أما ثلاث منهن فإني طعنتهن للَّه. وأما ست فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه [ص 183].
وعن جدة الزبير بن عبد اللَّه قالت [الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 671]:
لما ضربه المشاقص قال عثمان: "بسم اللَّه توكلت على اللَّه"، وإذا الدم يسيل على اللحية يقطر والمصحف بين يديه فاتكأ على شقه الأيسر وهو يقول: "سبحان اللَّه العظيم" وهو في ذلك يقرأ المصحف والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. وأطبق المصحف وضربوه جميعًا ضربة واحدة. فضربوه واللَّه بأبي وهو يحيي الليل في ركعة، ويصل الرحم، ويُطعم الملهوف، ويحمل الكَلَّ، فرحمه اللَّه".
وعن الزهري قال [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68].
قُتل عثمان عند صلاة العصر، وشدَّ عبدٌ لعثمان أسود على كنانة بن بشر فقتله. وشدَّ سودان على العبد فقتله. ودخلت الغوغاء دار عثمان فصاح إنسان منهم: أيحل دم عثمان ولا يحل ماله؟ فانتهبوا متاعه. فقامت نائلة فقالت: لصوص ورب الكعبة! يا أعداء اللَّه ما ركبتم من دم عثمان أعظم. أما واللَّه لقد قتلتموه صوَّامًا قوَّامًا يقرأ القرآن في ركعة. ثم خرج الناس من دار عثمان فأغلق بابه على ثلاثة قتلى:
ـ1ـ عثمان.
ـ2ـ وعبد عثمان الأسود.
ـ3ـ كنانة بن بشر.
وقد اختلف الرواة في حكاية محمد بن أبي بكر فذكر بعضهم أنه طعن جبين عثمان بمشقص كان في يده. وقيل: إن عثمان لما أمسك محمد لحيته قال له عثمان: أستنصر اللَّه عليك وأستعين به فتركه. وابن الأثير يرجح أنه تركه ولم يضربه.
وذكر ابن الأثير [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 67] أنهم أرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين، فصحن وضربن الوجوه. فقال ابن عديس: اتركوه. وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه وكسر ضلعًا من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن.
وبلغ الخبر عليًا وطلحة والزبير وسعدًا فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر حتى دخلوا على عثمان فقال عليّ لابنيه: كيف يقتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب، ورفع يده فلطم الحسن، وضرب الحسين على صدره. وشتم محمد بن طلحة وعبد اللَّه بن الزبير، وخرج وهو غضبان [ص 184] حتى أتى منزله فجاء الناس يهرعون إليه يريدون مبايعته فقال: "واللَّه إني لأستحي أن أبايع قومًا قتلوا عثمان، وإني لأستحي من اللَّه تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن". فافترقوا، وتمت البيعة له.
مروان ودفاعه عن عثمان
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 659، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 66]
لما ألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان فاحترق بعضها قال: ما احترق الباب إلا لما هو أعظم منه. لا يحركنَّ رجل منكم يده. فواللَّه لو كنت أقصاكم لتخطوكم حتى يقتلوني. ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري وإني لصابر كما عهد إليَّ رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لأصرعن مصرعي الذي كتب اللَّه عز وجل لي.
فقال مروان: واللَّه لا تقتل وأنا أسمع الصوت. ثم خرج بالسيف على الباب يتمثل بهذا الشعر:
قد علمتْ ذات القرون الميل *** والكف والأنامل الطفول
أبي أروع أول الرعيل *** بغارة مثل قَطا الشليل
ثم صاح: من يبارز وقد رفع أسفل درعه فجعله في منطقته، فوثب إليه ابن النباع، فضربه على رقبته من خلفه، فأثبته حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخل بيت فاطمة ابنة أوْس جدة إبراهيم بن العديّ وكانت أرضعت مروان، وأرضعت له. وفي رواية أن فاطمة وثبت على عبيد بن رفاع الذي أراد أن يجهز عليه بعد ضربة ابن النباع وقالت: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. فكفَّ عنه. فما زالوا يشكرونها لها فاستعملوا ابنها إبراهيم بعد.
فظاعة الجرم
لم يتوقع أحد من الصحابة أن يُقتل عثمان. أما الحسن والحسين ومن معهما فقد كانوا يحرسون بابه، ولكن القتلة تسوَّروا عليه من دار مجاورة لداره. لقد قتلوه قتلة شنيعة ترتعد منها الفرائص، ومثلوا به وهو يتلو القرآن، وكانت تلاوة القرآن نوعًا من العبادة، فضربه بعضهم بحديدة، وبعضهم ضربه بمشقص، وطعنه آخر بتسع طعنات، وكسر الآخر ضلعًا من أضلاعه. ولم يكتفوا بذلك بل تعدوا على امرأته المخلصة بالسيف وببذيء الكلام، وأرادوا قطع رأسه بعد أن فارق الحياة، ونهبوا أمتعة المنزل وما في بيت المال، ومنعوا عنه الماء أثناء الحصار حتى [ص 185] غضب عليّ وهالته قسوتهم، فقال لهم: "أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي."
لا أحد يبرز قتل عثمان والتمثيل به. ولم يجترئ عليه أحد من كبار الصحابة حتى المخالفين له في الرأي، لأنهم كانوا يجلُّونه، ويوقرونه، لمكانه من رسول اللَّه، وأياديه البيضاء في سبيل الإسلام، وحسن أخلاقه، وعواطفه، وسائر فضائله التي لا ينكرها أحد.
لا شك أن هؤلاء القتلة مجرمون، غلاظ الأكباد، قساة القلوب. فلم يراعوا حرمة صحبته للرسول، وصهره، ومنزلته في الإسلام، وخدماته الجليلة، وبذل الأموال الطائلة لنصرته ورفعته، ولم يخجلوا من التهجم على رجل فاضل قال عنه رسول اللَّه: (إن الملائكة تستحي منه) [رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: 26، وأحمد في(م 6/ص 155).]. رجل سهل، لين، كريم، كفَّ يده، ونهى عن سفك دم المسلمين، وهو محاصر أشد الحصار، مهدد بالقتل، وكان مثال الصالحين، والقراء للقرآن، وعاش محببًا للناس لا يميل إلى الشدة والعنف، لقد فتكوا به وهو قابع في بيته، يتعبد بتلاوة القرآن، ونهى أصحابه حتى عن الدفاع عنه. فأيِّ قلب لا يتفطر، وأيِّ دمع لا ينهمر، وأيِّ فؤاد لا يذوب كمدًا وأسى على قتل الخليفة الصالح من غير أن يرتكب إثمًا يوجب القتل.
إن الذي جنى على عثمان وبغَّضه في الناس هم كما قلنا وقال غيرنا من كبار المؤرخين المحققين أقاربه الذين كان يحسن إليهم، فإنهم كانوا مستشاري سوء، ولم يكن لهم رأي صائب ونظر بعيد، وكانوا مع ذلك يصرفونه حسب أغراضهم وأهوائهم لا حسب ما تقضي به مصلحة المسلمين عامة. وقد ظل عثمان كما قبل ست سنوات في بدء حكمه وهو أحب الناس إلى الناس. فلو أنه ترك وشأنه يدبر الأمور بطبيعته الخيّرة الهادئة التي لا تميل إلى الشدة والقسوة والتعدي، وبلطفه وأدبه وإحسانه وبما اشتهر عنه أيام الرسول لما شكا منه شاك، بل لكان عهده عهد خير وسلام. لكن أقاربه قد تمكَّن منهم حب الذات والجشع، فانتهزوا فرصة خلافته، واستغلوا صفة حميدة فيه ألا وهي صلة الرحم، فكانوا يأتونه من هذه الجهة لينالوا مأربهم من ولاية وثراء واستئثار بالحكم، وقد تحكَّموا فيه زمن شيخوخته فلم يقوَّ على مقاومتهم وخلافهم. فكان ما كان من سفك دمه وبث بذور الفتن والشقاق.
قال جيبون في كتاب سقوط الإمبراطورية الرومانية: "إن عثمان اختار فخُدع، ووثق فغُدر، وصار من كان موضع ثقته عديم الفائدة وعدوًا لحكومته، وانقلب إحسانه جورًا وتذمرًا".
قتلة عثمان وخاذلوه
أجمع أهل السنة على أن عثمان كان إمامًا على شرط الاستقامة إلى أن قُتل. وأجمعوا على أن قاتليه قتلوه ظلمًا، فإن كان فيهم من استحل دمه فقد كفر. ومن تعمد قتله من غير استحلال كان فاسقًا غير كافر. والذين هجموا عليه واشتركوا في دمه معروفون بقطع بفسقهم، منهم محمد بن أبي بكر، ورفاعة بن رافع، والحجاج بن غزنة، وعبد الرحمن بن خصل الجمحي، وكنانة بن بشر النخعي، وسندان بن حمران المرادي، وبسرة بن رهم، ومحمد بن أبي حذيفة، وابن عتيبة، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
وأما الذين قعدوا عن نصرة عثمان فهم فريقان: فريق كانوا معه في الدار فدفعوا عنه كالحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمر، والمغيرة بن الأخنس، وسعيد بن العاص، وسائر من كان في الدار من موالي عثمان، إلى أن أقسم عليهم بترك القتال وقال لغلمانه: "من وضع السلاح فهو حر". فهؤلاء أهل طاعة وبر وإحسان. والفريق الثاني من القعدة عن نصرته فريقان: فريق أرادوا نصرة عثمان فنهاهم عثمان عنها، كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد اللَّه بن سلام. فهؤلاء معذورون لأنهم قعدوا عنه بأمره. والفريق الثاني: قوم من السوقة أعانوا الهاجمين فشاركوهم في الفسق واللَّه حسبهم.
ودليلنا على براءة عثمان مما قذف به ورود الروايات الصحيحة بشهادة الرسول له ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بالجنة عند تجهيز جيش العسرة، وما روي من أنه يدخل الجنة بلا حساب، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن. وقد روي أن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ صعد جبل حراء، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال: (اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد) رواه الدارقطني في (ج 4/ص 198).. وفي هذا دليل على أن عثمان قُتل شهيدًا، ودليل صحة إمامته إجماع الأمة بعد عمر أن الإمامة لواحد من أهل الشورى وكانوا ستة، فاجتمع خمسة عليه فحصل إجماع الأمة على إمامته [أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي. أصول الدين (م 1/ص 287 289)، ط 1، استنابول سنة 1346 هـ 1928 م.].
كتاب نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية
كتبت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ إلى معاوية كتابًا مع النعمان بن بشير وبعثت إليه بقميص عثمان مخضبًا بالدماء. وهذا هو نص كتابها:
من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان [ص 187].
"أما بعد، فإني أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة. وأنقذكم من الكفر. ونصركم على العدو. وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم فإنه قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فإن أمير المؤمنين بُغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب اللَّه وصدق كتابه، واتبع رسوله، واللَّه أعلم به، إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة! وإني أقص عليكم خبره. إني شاهدة أمره كله. إن أهل المدينة حصروه في داره، وحرسوه ليلهم ونهارهم، قيامًا على أبوابه بالسلاح يمنعونه من كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وطلحة والزبير فأمروهم بقتله. وكان معهم من القبائل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب. فهؤلاء كانوا أشد الناس عليه. ثم إنه حصر، فرشق بالنبل، فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر. فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم فردوها عليهم. فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة وفي الأمر إلا إغراقًا فحرقوا باب الدار. ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا: إن ناسًا يريدون أن يأخذوا من الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد يأتوك فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية. فقال: ما أرى اليوم أحدًا يعدل. فدخل الدار وكان معهم نفر ليس على عامتهم سلاح. فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست اليوم درعي. فوثب عليه القوم فكلَّمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقًا في صحيفة بعث بها إلى عثمان. عليكم عهد اللَّه وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلّموه وتخرجوا. فوضع السلاح، ودخل عليه القوم يقدمهم محمد بن أبي بكر. فأخذ بلحيته ودعوا باللقب. فقال: أنا عبد اللَّه وخليفته عثمان فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه، قد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي فوطئنا وطئًا شديدًا عُرِّينا من حلينا وحرمة أمير المؤمنين أعظم. فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهورًا على فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه فإنه واللَّه إن كان أثم من قتله فما سلم من خذله. فانظروا أين أنتم من اللَّه، وأنا أشتكي كل ما مسنا إلى اللَّه عز وجل وأستصرخ بصالحي عباده. فرحم اللَّه عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفى منهم الصدور".
فحلف رجال من أهل الشام أن لا يمسوا غسلًا حتى يقتلوا عليًّا أو تفنى أرواحهم.
وهذا كتاب طويل ذكرت فيه زوجة عثمان تفاصيل قتله بعد أن فجعت بفقده، لكنها لم [ص 188] تذكر أسماء من باشروا القتل. وقد كانت نائلة من أخلص المخلصين لزوجها، ودافعت عنه بقدر طاقتها، وعرضت نفسها للقتل. وهكذا فليكن الوفاء والإخلاص. وقد حرضت معاوية والمسلمين بهذا الكتاب على الأخذ بالثأر.
موقف علي ـ رضي اللَّه عنه ـ إزاء قتل عثمان
كان علي ـ رضي اللَّه عنه ـ أحد الستة الذين رشَّحهم عمر بن الخطاب للخلافة بعده. وقد بايع عبد الرحمن بن عوف عثمان بناء على ما اجتمع إليه من رأي أصحاب رسول اللَّه وأمراء الأجناد وأشراف الناس.
فقال عمار: إن أردت ألاَّ يختلف المسلمون فبايع عليًا. فقال المقداد ابن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليًا قلنا سمعنا وأطعنا. وقال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد اللَّه بن أبي ربيعة: صدق، إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح وقال: ومتى كنت تنصح المسلمين.
وأخيرًا بايع عثمان فاستاء عليّ وقال: حبوته حبو دهر. ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا يعني بني أمية فصبر جميل واللَّه المستعان على ما تصفون. واللَّه ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك. واللَّه كل يوم هو في شأن.
فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلًا فإني نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
بايع عبد الرحمن عثمان لأنه كما قال نظر وشاور وهو مع ذلك صهر عثمان، وكان لعلي رجال يؤيدونه، لكنه سكت بعد ذلك وأطاع. وكان عثمان يعرف قدره ويقدر رأيه غير أنه تركه ولم يقلده ولاية ما، فلما اشتدت الفتنة لجأ إليه يستشيره ويستنجد به ليرد عنه عادية الأعداء فبذل له من النصح أخلصه فلم يعمل بنصحه لتسلط حاشيته ومستشاريه عليه وقد كانوا يبغضونه في علي خشية أن يطيعه فيفسد عليهم سياستهم وتدابيرهم.
لم يكن عليّ يتحامل على عثمان بل كان يجلّه لقد قال له وهو يحدثه في أمر الفتنة:
"واللَّه ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئًا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك. وقد رأيت وسمعت صحبت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ونلت صهره إلخ."
ثم أظهر له علي موضع ضعفه وسبب شكوى الناس فقال:
"ضعفت، ورفقت على أقربائك". وقال: "إن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تغيّر على معاوية" [ص 189].
ولما ذهب عثمان إلى عليّ في بيته يسأله أن يرد المصريين عنه قال له: "قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج وتقول، ثم ترجع عنه وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد اللَّه بن سعد. فإنك أطعتهم وعصيتني". فقال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك. فركب عليّ وردَّ عنه المصريين.
ولما خطب عثمان وتاب، ثم خرج مروان وشتم الناس وأفسد عليه توبته غضب علي وحق له أن يغضب نصحته زوجته نائلة أن يستصلحه.
ثم طلب عثمان المهلة ثلاثة أيام وأكد لعليّ أنه يعطيهم الحق من نفسه ومن غيره. فخرج فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتابًا أجله فيه ثلاثًا على أن يرد كل مظلمة ويعزل كل عامل كرهوه. فكف المسلمون عنه، ورجعوا، إلا أنه كان قد طلب الأجل انتظارًا للمدد من الأمصار حتى إذا قدموا وأنس القوة حاربهم، كما أوحى إليه مروان بن الحكم. وما كان عليّ يدري شيئًا من ذلك بل كان يحسب أنه إنما طلب الأجل ليتسنى له إجابتهم إلى ما يريدون في هذه المدة، لأنه قال له: "اضرب بيني وبينهم أجلًا يكون فيه مهلة فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد". ومضت الأيام الثلاثة ولم يغيّر شيئًا. وعدا ذلك أمر عليّ ابنه وأبناء الصحابة أن يحرسوا باب عثمان، فماذا يصنع عليّ بعد ذلك؟. وماذا كان في طاقته؟.
وعن شداد بن أوس قال: لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار أشرف على الناس فقال: يا عباد اللَّه. قال: فرأيت عليّ بن أبي طالب خارجًا من منزله معتمًا بعمامة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ متقلدًا سيفه. أمامه الحسن وعبد اللَّه بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار حتى حملوا على الناس وفرَّقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال له عليّ: السلام عليك يا أمير المؤمنين إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر وإني لا أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل. فقال عثمان: أنشد اللَّه رجلًا رأى للَّه حقًا وأقرَّ أن لي عليه حقًا أن يهريق في سببي ملء محجمة من دم أو يهريق دمه فيَّ. فأعاد عليّ عليه القول، فأجابه بمثل ما أجابه، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا: يا أبا الحسن تقدَّم فصلِّ بالناس فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلَّى وحده وانصرف إلى منزله إلخ.
وأخذ علي يبحث عن قتلة عثمان فسأل امرأته فقالت: لا أدري، إلا أن دخل عليه محمد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما فدعا محمدًا وسأله، قال واللَّه لم تكذب دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا تائب للَّه.
وجميع الروايات تثبت براءة عليّ ـ رضي اللَّه عنه ـ من دم عثمان.
رؤيا عثمان
[ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 195]: [ص 190]
عن عبد اللَّه بن سلام أنه قال:
أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال: مرحبًا بأخي مرحبًا بأخي. أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقال: بلى. قال: رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في هذه الخَوْخة [الخوخة: كوَّة يدخل منها الضوء إلى البيت] وإذا خوخة في البيت. فقال: أحصروك؟ فقلت: نعم. فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم. فأدلى لي دلوًا من ماء فشربت حتى رويت فإني لأجد بردًا بين كتفيَّ وبين بدني. إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا. قال: فاخترت أن أفطر عندهم. قال: فقتل عثمان في ذلك اليوم.
وعن مسلم عن أبي سعيد مولى عثمان، أن عثمان أعتق عشرين مملوكًا، ودعا بسراويل، فشدَّها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام. قال: إني رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ البارحة وأبا بكر وعمر فقالوا لي: صبرًا، فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه.
عن ابن عمر أن عثمان أصبح يحدث الناس. قال: رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في المنام. قال: يا عثمان أفطر عندنا غدًا فأصبح صائمًا وقتل من يومه. واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا فكانت مرة نهارًا ومرة ليلًا.
وصيته
عن العلاء بن الفضل عن أمه. قال: لما قُتل عثمان فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقًا مقفلًا ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوبًا فيها:
"هذه وصية عثمان: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن اللَّه يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه. إن اللَّه لا يخلف الميعاد. عليها يُحيى وعليها يموت. وعليها يُبعث إن شاء اللَّه".
آخر خطبة لعثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672]:
ذكر الطبري آخر خطبة خطبها عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ في جماعة:
"إن اللَّه عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها. إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى. فلا تُبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على [ص 191] ما يفنى. فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى اللَّه. اتقوا اللَّه عز وجل فإن تقواه جُنة من بأسه ووسيلة عنده.
واحذروا من اللَّه الغِيرَ والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابًا {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
دفن عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 687، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 69]:
قيل: بقي عثمان ثلاثة أيام لم يدفن، ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم، كلَّما عليًا في أن يأذن في دفنه، فقعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم، وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطًا من حيطان المدينة يسمى حَش كوكب [الحش: البستان. وحَش كوكب: موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة]. وهو خارج البقيع فصلَّى عليه جبير بن مطعم، وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه، ثم تركوهم خوفًا من الفتنة.
وعن الربيع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه قال: كنت أحد حملة عثمان بن عفان حين توفي حملناه على باب، وإن رأسه يقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمرًا عظيمًا، حتى واريناه في قبره في حش كوكب.
وأرسل عليّ إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه.
ونزل في قبره، بيان وأبو جهم وحبيب، وقيل: شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وعامة من أصحابه.
وعن الحسن قال: شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه، وفي البخاري أنه لم يغسل.
مدة حياته
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 689]:
كانت مدة حياة عثمان على المشهور 82 سنة. قال الواقدي: لا خلاف عندنا أنه قُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وهو قول أبي اليقظان.
خطبة علي عليه السلام عند بيعته بعد مقتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ
[ابن قتيبة، عيون الأخبار (م 2/ص 236]: [ص 192]
"أيها الناس، كتاب اللَّه وسنة نبيكم، لا يدَّع مدعٍ إلا على نفسه. شُغِلَ الجنةُ والنارُ أمامه. ساعٍ نجا. وطالبٌ يرجو. ومقصرٌ في النار، ثلاثة واثنان: ملَك طار بجناحيه، ونبي أخذ اللَّه بيديه، لا سادسَ. هلك من اقتحم. وردِيَ من هوى. واليمين والشمال مضلَة، الوسطى الجادَّةُ: منهج عليه باقٍ: الكتاب وآثار النبوة. إن اللَّه أدَّب هذه الأمة بأدبين: السوطِ والسيفِ، فلا هوادة فيهما عند الإمام. فاستتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت أمور ملتم علي فيها مَيلة لم تكونوا عندي محمودين ولا مصيبين. واللَّه أن لو أشاء أن أقول لقلت. عفا اللَّه عما سلف. انظروا، فإن أنكرتم فأنكروا وإن عَرَفتم فاروُوا. حق وباطل ولكل أهل، واللَّه لئن أمِّر الباطل لقديمًا فعل. ولئن أمر الحق لَرُبَّ ولعل. ما أدبر شيء فأقبل".
عمال عثمان سنة وفاته
[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 75]:
قتل عثمان بن عفان ـ رضي اللَّه عنه ـ وعماله على الأمصار كما يلي:
ـ1ـ عبد اللَّه بن الحضرمي على مكة.
ـ2ـ القاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف.
ـ3ـ يعلى بن منية على صنعاء.
ـ4ـ عبد اللَّه بن ربيعة على الجند.
ـ5ـ عبد اللَّه بن عامر على البصرة، خرج منها ولو يول عليها عثمان.
ـ6ـ سعيد بن العاص على الكوفة.
ـ7ـ عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح على مصر.
ـ8ـ معاوية بن أبي سفيان على الشام.
ـ9ـ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص.
ـ10ـ حبيب بن مسلمة على قنسرين.
ـ11ـ أبو الأعور بن سفيان على الأردن.
ـ12ـ علقمة بن حكيم الكناني على فلسطين.
ـ13ـ عبد اللَّه بن قيس الفزاري على البحرين.
ـ14ـ أبو الدرداء على القضاء [ص 193].
ـ15ـ جرير بن عبد اللَّه على قرقيسياء.
ـ16ـ الأشعث بن قيس على أذربيجان.
ـ17ـ عتيبة بن النهاس على حُلوان.
ـ18ـ مالك بن حبيب على ماه.
ـ19ـ النسَير على همذان.
ـ20ـ سعيد بن قيس على الرَّيِّ.
ـ21ـ السائب بن الأقرع على أصبهان.
ـ22ـ حبيش على ماسبذان.
ـ23ـ عقبة بن عمرو على بيت المال.
ـ24ـ زيد بن ثابت على قضاء عثمان.
فتوح المسلمين في خلافة عثمان
حكم عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ اثني عشر عامًا وكانت خلافته فتحًا وفوزًا للمسلمين امتدت سطوتهم إلى بلاد النوبة في مصر واتصلت بحدود الهند حتى ضربت النقود الإسلامية على ما قيل بهراة، وأنشؤوا الأساطيل بعد أن لم يكن لهم سفينة واحدة في البحر وغزوا الجزر، وحاربوا في البحر، وزادت هيبتهم في نفوس الدول الأخرى، ولا سيما الروم، وفتح المسلمون شمالي أفريقية، وقتلوا آخر ملك للفرس وغزوا الترك، وواصلوا الفتوح حتى القوقاز مجتازين الفيافي والقفار والجبال، واستولوا على جزيرة قبرس ورودس، واستأذن معاوية بفتح القسطنطينية فأذن له فسار إليها ورجع عنها بعد أن حاصرها مدة.
تمت كل هذه الفتوح العظيمة بسرعة مدهشة لم يعهدها التاريخ من قبل بالرغم من الفتن الداخلية والنقمة على عثمان، وبالرغم من لين الخليفة وشدّة حياته، لأن المسلمين كانوا يجاهدون في سبيل اللَّه بقوة إيمانهم وقد ذاقوا حلاوة الفتح والنصر والغنائم، فلم يكن يعوقهم عن الفتح عائق. وقد قامت هذه الفتوح على يد الولاة الذين ولاَّهم عثمان أمثال الوليد وسعيد بن العاص وعبد اللَّه بن عامر وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح ومعاوية. فلا غرو إذا قلنا إن عهد عثمان كان عهد فوز للمسلمين كانت هذه الفتوح العظيمة سببًا في اتساع الدنيا على الصحابة. فكثرت الأموال حتى كان الفَرس يُشترى بمائة ألف، وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة ألف درهم، وكانت المدينة عامرة كثيرة الخيرات والأموال والناس يجبى إليها خراج الممالك وهي دار الأمان، وقبة الإسلام، فبطر لناس بكثرة الأموال والخيل والنعم وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا. ثم أخذوا ينقمون على خليفتهم. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:37 am | |
| الفصل السابع: آراء ومواقف في مقتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ
رأي الأستاذ فريد وجدي في مقتل عثمان
نورد هنا ما كتبه الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف خاصًَّا بمقتل عثمان:
"إن الناظر في حادثة عثمان على ما أحاطها به المؤرخون من عبارات التضليل الباعث عليه ضعف النقد، يعدها أمرًا جليلًا، وهي في حقيقتها أمر طبيعي، كانت نتيجتها لازمة لمقدمات سابقة. ونحن لا نود أن نقول بأن عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ استحق أن يقتل. ولكنا نقول: إنه استحق أن يعزل، ولكن الشكل الفذُّ الذي كانت عليه الحكومة إذ ذاك لم يسمح إلا بحدوث هذه النتيجة المحزنة المريعة.
عثمان استحق أن يعزل لجملة أسباب:
أولًا ـ لضياع هيبة الخلافة في عهده، فإنه كان يجترئ رجل مثل "جهجاه" على كسر العصا التي كان يتوكأ عليها، وهو على المنبر، فلم يقوَّ على معاقبته بما يستحق، أو بمؤاخذته بحيث لا يجترئ بمثلها.
وقد تبيَّن من تاريخ حياته أنه كان يصعد المنبر فيتوب مما فعل، ويستغفر اللَّه، ثم يعود سيرته الأولى من الخضوع لرأي فتية بني أمية. وفي توبته إقرار بأنه أخطأ، ثم في عودته دليل محسوس على خضوعه للمؤثرين عليه، وكفى بهذا مسقطًا لهيبة الخلافة، وهي الوظيفة التي كانت تعتبر تالية لمقام النبوة.
ثانيًا ـ لوقوعه تحت تأثير قرابته، من أمثال عبد اللَّه بن أبي سرح، وعمرو بن العاص [يلاحظ أن عمرو بن العاص كان ناقمًا على عثمان بعد أن عزله عن ولاية مصر سابقًا غير أن عثمان كان مع ذلك يستشيره]، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم، وهم إما من الطلقاء الذين مَنَّ رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عليهم بالعفو عند فتح مكة بعد أن كان تاريخهم في مكافحة الدعوة الإسلامية أقبح تاريخ. وإما من الفتيان الذين لا حريجة لهم في الدين، ولا صفة لهم بين المؤمنين [ص 198].
ثالثًا ـ لحرمانه المجتمع الإسلامي من مكونيه الأولين أمثال علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد اللَّه بن عمر، وغيرهم من كبار الصحابة، واعتماده على فتيان بني أمية. فكان يرسل إلى الولايات الكبرى كمصر وسورية والعراقين والفرس من أولئك الفتية ممن لا يحسنون قيادة، ولا يعرفون سيادة. ويترك أمثال أولئك الكاملين عاطلين بلا عمل، وهم مكونو المجتمع الإسلامي وأرواحه التي أقامته من المجتمعات البشرية.
هذه الأمور الثلاثة وحدها كانت كافية لإهلاك المجتمع الإسلامي وحلِّ الوحدة الدينية، وهي وحدها كانت كافية لجمع المسلمين على خلع ذلك الخليفة، ولكن شكل تلك الحكومة لم يكن يسمح لهم بخلعه، فحدثت الحادثة التي انتهت بقتله.
كان عثمان يستطيع أن يتلافى الوقوع في شرِّ هذه الحوادث بتولية أمثال علي وطلحة والزبير الولايات الكبيرة. فإن هؤلاء النفر كان لهم من المقام الرفيع، والسوابق الجليلة، والحب في نفوس الناس ما كان يقيم الكافة على الطريق السوِّي، ويوجد للمجتمع الإسلامي روحه المدبر، ولكن عثمان كان تحت تأثير مثل عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح المطعون في دينه، ومروان بن الحكم المكروه من الناس وغيرهما من الغلمان والأحداث دون أولئك الصحابة الأكرمين الذين استعان بهم النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ نفسه في تكوين الأمة، واستعان بهم أبو بكر وعمر في تقويم معرج الشؤون. فكيف لا تنحرف عنه الأمة؟. وكيف لا تسقط مهابة الخلافة؟. وكيف لا يجترئ الناس عليه!.
إن قتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ على حسن سوابقه وفضله في إقامة الدين، وبذله نفسه وماله في مساعدة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، يعد من الأمور المريعة. ولكن الثائرين طلبوا إليه أن يخلع نفسه فأبى فحاصروه ليحملوه على ذلك فأصر على الإباء. فدخلوا عليه وهددوه بالقتل فلم يزدد إلا إباءً فاستهدف نفسه بذلك لما حدث.
هذا رأينا ولكن إخواننا المؤلفين الأولين كانوا يذهبون في تعظيم الأشخاص مذهبًا لا يلائم نصَّ الدين نفسه، فاستنكروا حادثة عثمان استنكارًا لم يفعله معاصروه أنفسهم".
رأي رفيق بك العظم
كتب الأستاذ رفيق بك العظم المؤرخ الشهير في ترجمته حياة عثمان بن عفان كلمة في هؤلاء الناقمين على عثمان وفي أهمية تاريخ الصحابة، ما يأتي:
"إنَّ من يطالع هذا الخبر من أسراء الاستبداد وأليفي الاستعباد يعجب من جرأة القوم وتجاوزهم حدود الحشمة مع وجود الصحابة، وأعجب منه عندهم أن يتجاوز عن القوم لا ينالهم [ص 199] أدنى عقاب على ما فعلوه سوى التوبيخ، إذ لو حدث من غيرهم ما حدث منهم في حكومة أخرى غير الحكومة الإسلامية يومئذٍ لما كان جزاؤهم إلا القتل أو قضاء الحياة في أعماق السجون. ولكن شأن العرب وشأن الإسلام وحكومته يومئذٍ لا يضاهيه شأن الأمم الأخرى وحكوماتها. إذ العرب قد اعتادوا بأصل الفطرة حرية الفكر والقول. وشرائع الإسلام لم تكن مصادمة لتلك الفطرة، بل هي معينة لها، داعية لتهذيبها وارتقائها. فالقرآن يأمر المسلمين عامة بقول الحق، وأن يقوموا بالقسط ويشهدوا بالحق ولو على أنفسهم، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. وفي هذا كله ما يجيز لهم الانتقاد على الأمراء والعمال ويطلق لهم العنان فيما اعتادته فطرتهم من حرية القول، بشرط أن لا يترتب على قولهم حدُّ من الحدود الشرعية كالقذف وكل ما يمسُّ بالشرف والعرض ويدعو إلى إقامة الحدِّ، أو أية عقوبة من عقوبات التعزير. لهذا قام هؤلاء الناس وغيرهم في الأمصار الإسلامية يظهرون الطعن على عثمان وعماله باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس من يجرؤ على معاقبتهم، أو الضرب على أيديهم من العمال، لأنه حق من الحقوق التي خولتها لهم الفطرة والشرع. ولم يظهر عليهم النكير إلا بعد أن ترتب على عملهم حق من حقوق اللَّه في قتل عثمان رحمه اللَّه وـ رضي اللَّه عنه ـ. وهذا عين ما يشاهد الآن في الممالك الأوربية ذات الحكومات الشورية من إطلاق ألسنة الانتقاد على الحكومات ومناقشة أهل الشورى للوزراء في كل جليل وحقير. وكثيرًا ما يلجئون الوزراء إلى اعتزال مناصبهم إذا رأوا منهم ما يستدعي ذلك، فيعتزلونها صاغرين. وشأنهم هذا شأن المسلمين في ذلك العهد مع أمرائهم كما رأيت. وترى العبرة في عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ وعماله ونهوض الأمة لمؤاخذته على أمور هي ولا نكران للحق أقل مما يأتيه أصغر عامل من عمال الدول المطلقة في هذا العصر وفي كل عصر. ومع هذا فقد أفضى الأمر إلى طرد عماله من الأمصار، ثم إجلاب الناس عليه بالخيل والرجل من كل مصر وقتله بين ظهراني إخوانه من المهاجرين والأنصار. فليت شعري كيف نسي المسلمون تاريخ هذه النشأة التي نشأ عليها أسلافهم وأهملوا أمور شريعتهم التي عمل بها مؤسسو دولتهم فاستخذوا بعد ذلك للأمراء واستسلموا للقضاء حتى صاروا أسراء الاستبداد، وتعبَّدهم الملوك في كل الأنحاء، وسامتهم الدول الحاكمة عليهم من إسلامية ومسيحية دروب الخسف. وأذاقتهم أنواع الهوان. وأين تلك الروح البارَّة والنفس العالية التي كانت تأبى الضيم وتغضب للحق فترى أن الموت والحياة سيان في سبيل الذود عن حقوقها والاحتفاظ بحريتها.
لا جرم أن الأمة الإسلامية قد أُنست ذلك لأمرين:
الأول: عدم العناية بوضع قواعد الشورى على الأصول الثابتة منذ نشوء الدولة كما سبق بيان هذا في صدر هذا الجزء.
والثاني: تحريم العلماء بإيعاز الأمراء الخوض في تاريخ الخلفاء [ص 200] الراشدين [قال: نريد بالخوض هنا معناه اللغوي وهو من قولهم: خاض الماء أي تغلغل فيه. فإذا كان مراد القائلين بحرمة الخوض في أخبار الصحابة هذا التغلغل فلا نسلم لهم بحرمته وإذا كان مرادهم به المعنى المجاز كالخوض في الباطل ونحوه فهذا ما لا ننكره عليهم بل هو مما نقول ونسلم به وأنا أريد الخوض هنا بالمعنى الأول. فليتنبه له.] وأخبار الصدر الأول التي كلها حياة. كلها عبر. حرية. وليس في كل ما كان بين الصحابة من الأمور العظام، والفتن الجسام، ما يدعو دينًا أو أدبًا إلى اجتناب الخوض في أخبارهم والنظر في تاريخهم تعظيمًا لهم واحترامًا لجنابهم، وتسليمًا بسلامة مقاصدهم كما يذهب إليه خدام الأمراء من بعض العلماء. إذ لو كان في أخبارهم ما يمنع من الخوض فيها دينًا، أو أدبًا لاستلزم أنها أعمال تحطُّ من منزلتهم وتقلل من احترامهم. وهذا باطل بالبداهة.
والحقيقة هي أن هذا التحريم لم يكن إلا بإيعاز الأمراء الجبارين والزعماء المستبدين. لأن تاريخ الصدر الأول وأخبار الصحابة كلها تدل على حياة منبثة في صدور القوم ومقاصد عالية تعلي شأن أولئك الرجال، وواللَّه ليس في تاريخ من تواريخ الأمم في بدء نشأتها وإبان ظهورها ما في تاريخ الخلفاء الراشدين. ووقائع الصحابة من الحوادث التي ترمي كلها إلى غرض الحرية وتمحيص الحق مما قلَّ أن يكون في أمة حديثة النشأة ودولة جديدة التكوين. أما أن فريقًا منهم أخطأ وفريقًا أصاب. وفريقًا بغى وفريقًا بغي عليه. فهذا الحكم إنما هو تابع للمقاصد والمقاصد كانت كلها متجهة إلى تمحيص الحق والرغائب العالية. فمن العبث أن يحكم بخطأ فريق ما دام يعتقد أنه على صواب. ومثاله هؤلاء المحرضون على عثمان، فإنا مع اعتقادنا أن عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ خير من كثير غيره ممن أتى بعده من الخلفاء. ومع علمنا أنه لم يأتِ من حبِّ النفس أو الأثرة بجزء مما يأتيه حتى أشهر من اشتهر بالعدل من الخلفاء الأمويين أو العباسيين، أو غيرهم فإن أولئك الثائرين على عماله الناقمين منه مهما كان الدافع لهم إلى ذلك العمل فإن غايتهم التي يقصدون إليها بحسب الظاهر هي العدل بين الناس بعدم الاستئثار بمصالح المسلمين ومنافع الأمة كما تعودوا ذلك من الخليفتين السابقتين، وإن كانت سيرتهما في الخلافة وسياسة الملك فوق المستطاع لمن عداهما. لهذا لم يستطع أن يمد إليهم العمال بسوء فهم إذا أوخذوا فإنما يؤاخذون من جهة أنهم كانوا يطلبون من عثمان فوق ما يستطاع بالنسبة إليه. وأنهم غلوا في ذم سيرته تذرعًا لمحو الصبغة الأموية من الدولة غلوًا يلامون عليه ما دام ذلك الغلو لغرض آخر يرمون إليه.
وأما قتلته فإنهم أخزاهم اللَّه ليسوا بمؤاخذين وحسب بل هم ملعونون على لسان كبار الصحابة كحذيفة بن اليمان وأضرابه، وهو مسؤولون عن عملهم دون غيرهم. وقد جنوا على الأمة في مستقبلها جناية كبرى كما سنشير إليه بعد إن شاء اللَّه [ص 201].
إذا تقرر هذا، فاعلم أن أخبار الصحابة إنما حرم بعضهم الخوض فيها، لأنها أخبار قوم ملئت صدورهم بالحياة ونفوسهم بالعزة. وهم بالضرورة قدوة الأمة، والمنادون منذ نشأت الدولة بصوت العدل والحرية والحق. فوقوف الناس على أخبارهم والأخذ والردُّ فيما حدث بينهم يُحيي في القلوب روح الحرية، ويبعث على استظهار عامة الناس للحجة التي يصادمون بها آلات الاستبداد من الخلفاء والملوك الذين حولوا الخلافة إلى الملك العضوض، وأمعنوا في التمكُّن من رقاب الناس. ولهذا ولما كثر خوض الناس في أخبار الصحابة أرادوا إلهاءهم عنها بحجة حرمة الخوض فيها، فأوعزوا إلى الوضاع والقصاصين بوضع أخبار المغازي، وقصة عنترة، وأشباهها في أعصر مختلفة لا تعلم بالتحقيق، إلا إذا صحَّ نسبة أكثر تلك الكتب إلى الواقدي والأصمعي، فإنها تكون في عصر العباسيين وذلك ليتلهى بها العامة عن التاريخ الصحيح الذي يبعث في النفوس روح الجرأة على قول الحق والتشبه بسلف الأمة ورجالها، ورافعي دعامة دولتها في مناهضة أرباب العتو والجبروت ومحبي الاستبداد وآلهة الملك. هذا ما أراه في هذا الباب واللَّه أعلم بالصواب".
المدافعون عن عثمان
قد أبدينا رأينا في سياسة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ، وذكرنا في مواطن شتى أسباب الفتنة، وما استوجب غضب الناس عليه وقتئذٍ، كما أننا ذكرنا ردَّه على منتقديه، لكنه ـ رضي اللَّه عنه ـ عاد فتاب في خطبة له، وإن كان لم يغيّر سياسته بسبب تسلط أقاربه عليه، غير أن بعض المؤلفين تعرَّضوا لأسباب النقمة وفنَّدوها واحدة واحدة، ومعنى ذلك أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت وقد أجمعت تقريبًا عدا أقاربه على نقد خطته السياسية كانوا على خطأ، مع العلم بأن كبار الصحابة كانوا لا يرون رأيه وينقدون سياسته ونصحوا مرارًا بالإقلاع عنها، فالدفاع عنه وتبرئته من كل خطأ أدى إلى هذه الكارثة التي أعقبتها كوارث مناقض لرأي الصحابة ولتوبته الأخيرة. وليس يتضح الحق بمثل هذا الدفاع، وقد نقل الأستاذ فريد وجدي بعض ما كتبه أبو بكر محمد بن يحيى الأشعري في كتابه "التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان" دفاعًا عنه فليراجعه من أراد التفصيل والكتاب موجود بدار الكتب المصرية.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نأتي على ذكر مثال مما ردَّ به أبو جعفر أحمد، الشهير بالمحب الطبري، صاحب كتاب "الرياض النضرة في مناقب العشرة" قال:
الأول: ما نقموا عليه من عزله جمعًا من الصحابة، منهم أبو موسى عزله عن البصرة وولاها عبد اللَّه بن عامر. ومنهم عمرو بن العاص عزله عن مصر وولاها عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، وكان ارتد في حياة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ولحق بالمشركين، فأهدر النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ دمه بعد الفتح إلى [ص 202] أن أخذ له عثمان الأمان، ثم أسلم. ومنهم عمار بن ياسر عزله عن الكوفة، ومنهم المغيرة بن شعبة عزله عن الكوفة أيضًا، ومنهم عبد اللَّه بن مسعود عزله عن الكوفة أيضًا وأشخصه إلى المدينة.
الجواب: أما القضية الأولى وهي عزل من عزله من الصحابة فإليك التفصيل: أما أبو موسى فكان عذره في عزله أوضح من أن يذكر فإنه لو لم يعزله اضطربت البصرة والكوفة وأعمالهما للاختلاف الواقع بين جند البلدين. وقصته: أنه كتب إلى عمر في أيامه يسأله المدد فأمده بجند الكوفة، فأمرهم أبو موسى قبل قدومهم عليه برامهرمز فذهبوا إليها وفتحوها، وسبوا نساءها وذراريها، فحمدهم على ذلك، وكره نسبة الفتح إلى جند الكوفة دون جند البصرة فقال لهم: إني كنت أعطيتهم الأمان وأجلتهم ستة أشهر فردوا عليهم، فوقع الخلاف في ذلك بين الجندين وكتبوا إلى عمر فكتب عمر إلى صلحاء جند أبي موسى، مثل البراء وحذيفة وعمران بن حصين وأنس بن مالك وسعيد بن عمرو الأنصاري وأمثالهم وأمرهم أن يستحلفوا أبا موسى، فإن حلف أنه أعطاهم الأمان وأجلهم ردوا عليهم فاستحلفوه فحلف ورد السبي عليهم وانتظر لهم أجلهم وبقي الجند حانقين على أبي موسى، ثم رفع على أبي موسى إلى عمر وقيل له: لو أعطاهم الأمان لعلم ذلك، فأشخصه عمر وسأله عن يمينه فقال: ما حلفت إلا على حق. قال: فَلِمَ أمرت الجند حتى فعلوا ما فعلوا وقد وكلنا أمرك في يمينك إلى اللَّه تعالى، فارجع إلى عملك. فليس نجد الآن من يقوم مقامك، ولعلنا إن وجدنا من يكفينا عملك وليناه. فلما مضى عمر لسبيله وولى عثمان شكا جند البصرة شح أبي موسى، وشكا جند الكوفة ما نقموا عليه، فخشي عثمان ممالأة الفريقين على أبي موسى فعزله عن البصرة، وولاَّها أكرم الفتيان عبد اللَّه بن عامر بن كريز وكان من سادات قريش وهو الذي سقاه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ريقه حين حُمِلَ إليه طفلًا في مهده.
وأما عمرو بن العاص فإنما عزله، لأن أهل مصر أكثروا شكايته، وكان عمر قبل ذلك عزله لشيء بلغه عنه، ثم لما ظهرت توبته ردَّه، كذلك عزله عثمان لشكاية رعيته، كيف والرافضة يزعمون أن عمرًا كان منافقًا في الإسلام، وعلى زعمهم فقد أصاب عثمان في عزله، فكيف يعترضون على عثمان بما هو مصيب فيه عندهم؟.
وأما تولية عبد اللَّه فمن حسن النظر عنده، لأنه تاب وأصلح عمله، وكانت له فيما ولاَّه آثار محمودة، فإنه فتح من تلك النواحي طائفة كبيرة حتى انتهى في إغارته إلى الجزائر التي في بحر بلاد الغرب وحصَّل في فتوحه ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار سوى ما غنمه من صنوف الأموال، وبعث بالخمس منها إلى عثمان، وفرَّق الباقي في جنده، وكان في جنده جماعة من الصحابة ومن أولادهم، كعقبة بن عامر الجهني، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص قاتلوا تحت رايته، وأدُّوا طاعته، ووجدوه أقدر على سياسة الأمر من عمرو بن [ص 203] العاص، ثم أبان عن حسن رأي في نفسه عند وقوع الفتنة فإنه حين قتل عثمان اعتزل الفريقين، ولم يشهد مشهدًا، ولم يقاتل أحدًا بعد قتال المشركين.
وأما عمار بن ياسر فأخطؤوا في ظن عزله، فإنه لم يعزله وإنما عزله عمر. كان أهل الكوفة قد شكوه، فقال عمر: من يعذرني من أهل الكوفة، إن استعملت عليهم تقيًا استضعفوه، وإن استعملت عليهم قويًا فجروه، ثم عزله وولَّى المغيرة بن شعبة، فلما ولِيَ عثمان شكوا المغيرة إليه، وذكروا أنه ارتشى في بعض أموره، فلما رأى ما وقرَّ عندهم منه استصوب عزله عنهم، ولو كانوا مفترين عليه. والعجب من هؤلاء الرافضة كيف ينقمون على عثمان عزل المغيرة وهم يكفرون المغيرة على أنا نقول: ما زال ولاة الأمر قبله وبعده يعزلون من أعمالهم من رأوا عزله ويولون من رأوا توليته بحسب ما تقتضيه أنظارهم. عزل عمر خالد بن الوليد عن الشام وولى أبا عبيدة، وعزل عمارًا عن الكوفة وولاَّها المغيرة بن شعبة، وعزل علي قيس بن سعد عن مصر وولاَّها الأشتر النخعي. ألا ترى إلى معاوية وكان مما ولى عمر لما ضبط الجزيرة وفتح البلاد إلى حدود الروم وفتح جزيرة قبرس وغنم منها مائة ألف رأس سوى ما غنم من البياض وأصناف المال وحمدت سيرته وسراياه أقره على ولايته.
وأما ابن مسعود فسيأتي الاعتذار عنه فيما بعد.
هذا جواب المحب الطبري معتذرًا عن عثمان في المسألة الأولى التي ذكرها. ونحن نقول: إن الخليفة له أن يعزل من شاء من الولاة ممن يرتكبون وزرًا، أو يشك في سيرتهم، ويعين من يثق بهم، لكنهم نقموا على عثمان أنه كان يراعي أقاربه، ويخصهم بالولاية، ويتسامح معهم. وإن الفتنة لم تنشأ عن شكوى خاصة بل عن عدة أمور كانت في مجموعها سببًا في السخط العام. فعبد اللَّه بن عامر الذي ولاَّه عثمان البصرة مكان أبي موسى كان ابن خاله، وكان عمره خمسًا وعشرين عامًا وقتئذٍ مع اعترافنا بفتوحه وشجاعته، وولى مصر عبد اللَّه بن سعد ابن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة، وكان كاتب الوحي، ثم ارتد مشركًا، وأهدر رسول اللَّه دمه إلى أن أخذ عثمان له الأمان. نعم إنه فتح شمال إفريقية لكن عمرًا المعزول عن ولاية مصر، والذي له الفضل في فتحها قد أغضبه أن يعزل فوجد مجالًا للطعن على الوالي الجديد من هاتين الناحيتين وغيرهما، وظل ناقمًا طاعنًا على عثمان إلى النهاية، ولا يخفى أن عمرًا كان داهية في وسعه توسيع دائرة الفتنة.
أما عبد اللَّه بن مسعود الذي عزله عثمان عن الكوفة، فقد كان سيَّره عمر بن الخطاب إلى الكوفة وكتب إلى أهلها:
"إني قد بعثت عمار بن ياسر أميرًا، وعبد اللَّه بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ من أهل بدر فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، [ص 204] وقد آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي."
فهذه هي شهادة عمر في عمار بن ياسر وعبد اللَّه بن مسعود. وعمر لا يحابي أحدًا ولا يقول غير الحق. فعزل عبد اللَّه بن مسعود أحدث استياء لما له من العلم والفضل وعن زيد بن وهب قال: لما بعث عثمان إلى عبد اللَّه بن مسعود يأمره بالقدوم عليه بالمدينة وكان بالكوفة اجتمع الناس عليه فقالوا: أقم ونحن معك نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه. فقال عبد اللَّه: إن له عليّ حق الطاعة، وإنها ستكون أمور وفتن فلا أحب أن أكون أوّل من فتحها، فرد الناس وخرج إليه.
قال المحب الطبري:
"الثاني: ما ادعوا عليه من الإسراف في بيت المال وذلك بأمور منها أن الحكم بن العاص لما ردَّه من الطائف إلى المدينة، وقد كان طرده النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وصله من بيت المال بمائة ألف درهم وجعل لابنه الحارث سوق المدينة يأخذ منها عشور ما يباع فيها. ومنها أنه وهب لمروان خمس أفريقية. ومنها أن عبد اللَّه بن خالد بن أسد بن أبي العاص بن أمية قدم عليه فوصله بثلاثمائة ألف درهم. ومنها ما رواه أبو موسى قال: كنت إذا أتيت عمر بالمال والحلية من الذهب والفضة، لم يلبث أن يقسم بين المسلمين حتى لا يبقى منه شيء. فلما ولي عثمان أتيت به فكان يبعث به إلى نسائه وبناته. فلما رأيت ذلك أرسلت دمعي وبكيت. فقال لي: ما يبكيك؟ فذكرت له صنيعه وصنيع عمر. فقال: رحم اللَّه عمر كان حسنة وأنا حسنة ولكلٍ ما اكتسب. قال أبو موسى: إن عمر كان ينزع الدرهم الفرد من الصبي من أولاده فيردّه في مال اللَّه ويقسّمه بين المسلمين، فأراك قد أعطيت إحدى بناتك مجمرًا [المجمر والمجمَّرة: التي يوضع فيها الجمر مع المدخنة. [القاموس المحيط، مادة: جمر].] من الذهب مكللًا باللؤلؤ والياقوت، وأعطيت الأخرى درتين لا يعرف كم قيمتهما. فقال: إن عمر عمل برأيه ولا يألو عن الخير، وأنا أعمل برأيي ولا آلو عن الخير. وقد أوصاني اللَّه تعالى بذوي قراباتي، وأنا مستوصٍ بهم وأبرّ برّهم. ومنها ما قالوا إنه أنفق أكثر بيت المال في ضياعه ودوره التي اتخذها لنفسه ولأولاده. وكان عبد اللَّه بن أرقم ومعيقيب على بيت المال في زمن عمر فلما رأيا ذلك استعفيا فعزلهما، وولاَّه زيد بن ثابت وجعل المفاتيح بيده. فقال له يومًا: قد فضل في بيت المال فضلة خذها لك، فأخذها زيد فكانت أكثر من مائة ألف درهم".
"وأما القصة الثانية فهو ما ادعوه من إسرافه في بيت المال فأكثر ما نقلوه عنه مفترى عليه ومختلق وما صحَّ منه فعذره فيه واضح. وأما ردّه الحكم إلى المدينة فقد ذكر ـ رضي اللَّه عنه ـ أنه كان استأذن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في ردّه إلى المدينة فوعده بذلك. فلما ولى أبو بكر سأله عثمان ذلك فقال: كيف أرده إليها وقد نفاه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. فقال له عثمان ذلك. فقال له: إني لم أسمعه يقول لك ذلك، ولم [ص 205] تكن مع عثمان بينة على ذلك، فلما ولي عمر سأله ذلك فأبى، ولم يريا الحُكم بقول الواحد، فلما ولى قضى بعلمه، وهو قول أكثر الفقهاء، وهو مذهب عثمان، وهذا بعد أن تاب الحكم عما كان طرده لأجله، وإعانة التائب مما تحمد.
وأما صلته من بيت المال بمائة ألف، فلم تصح، وإنما الذي صح أنه زوَّج ابنه من ابنة الحارث بن الحكم، وبذل لها من مال نفسه مائة ألف درهم، وكان ـ رضي اللَّه عنه ـ ذا ثروة في الجاهلية والإسلام، وكذلك زوَّج ابنته أم أبان من ابن مروان بن الحكم، وجهَّزها من خاص ماله بمائة ألف لا من بيت المال، وهذه صلة رحم يحمد عليها.
وأما طعنهم على عثمان أنه وهب خمس أفريقية من مروان بن الحكم فهو غلط منهم، وإنما المشهور في القضية أن عثمان كان جهز ابن أبي سرح أميرًا على آلاف من الجند، وحضر القتال بأفريقية. فلما غنم المسلمون أخرج ابن أبي سرح الخمس من الذهب وهو خمسمائة ألف دينار فأنفذها إلى عثمان، وبقي من الخمس أصناف من الأثاث والمواشي مما يشق حمله إلى المدينة فاشتراها مروان منه بمائة ألف درهم، نقد أكثرها وبقيت منها بقية، ووصل عثمان مبشرًا بفتح أفريقية وكانت قلوب المسلمين مشغولة خائفة أن يصيب المسلمين من أفريقية نكبة، فوهب له عثمان ما بقي عليه جزاء ببشارته، وللإمام أن يصل المبشرين من بيت المال بما رأى على قدر مراتب البشارة.
وأما ذكره من صلته عبد اللَّه بن خالد بن أسد بثلاثمائة ألف درهم فإن أهل مصر عاتبوه على ذلك لما حاصروه، فأجابهم بأنه استقرض له من ذلك من بيت المال، وكان يحتسب لبيت المال ذلك من نفسه حتى وفَّاه.
وأما دعواهم أنه جعل للحارث بن الحكم سوق المدينة يأخذ عشور ما يباع فيه فغير صحيح. وإنما جعل إليه سوق المدينة ليراعي أمر المثاقيل والموازين فتسلط يومين أو ثلاثة على باعة النوى واشتراه لنفسه، فلما رُفع ذلك إلى عثمان أنكر عليه وعزله وقال لأهل المدينة: إني لم آمره بذلك. ولا عتب على السلطان في جور بعض العمال إذا استدرك بعد علمه. وقد روي أنه جعل على سوق المدينة وجعل له كل يوم درهمين وقال لأهل المدينة: إذا رأيتموه سرق شيئًا فخذوه منه وهذا غاية الإنصاف.
وأما قصة أبو موسى فلا يصح شيئًا منها. فإنه رواه ابن إسحاق عمن حدثه عن أبي موسى ولا يصح الاستدلال برواية المجهول. وكيف يصح ذلك وأبو موسى ما ولى لعثمان عملًا إلا في آخر السنة التي قتل فيها ولم يرجع إليه، فإنه لما عزله عن البصرة بعبد اللَّه بن عامر لم يتول شيئًا من أعماله إلا إرسال أهل الكوفة إليه في السنة التي قتل فيها أن يوليه الكوفة فولاه إياها ولم يرجع إليه. ثم يقال للخوارج والروافض إنكم تكفرون أبا موسى. فلا حجة في دعوى بعضهم على بعض [ص 206].
وأما عزل ابن الأرقم ومعيقيب عن ولاية بيت المال، فإنهما أسنا وضعفا عن القيام بحفظ بيت المال. وقد روي أن عثمان لما عزلهما خطب الناس وقال: "ألا إن عبد اللَّه بن الأرقم لم يزل على جرايتكم زمن أبي بكر وعمر إلى اليوم وأنه كبر وضعف وقد ولينا عمله زيد بن ثابت".
وما نسبوه إليه من صرف مال بيت المال في عمارة دوره وضياعه المختصة، فبهتان افتروه عليه. وكيف وهو من أكثر الصحابة مالًا؟. وكيف يمكن ذلك بين أظهر الصحابة مع أنه الموصوف بكثرة الحياء، إذ أن الملائكة تستحي منه لفرط حيائه.
أعاذنا اللَّه من فرطات الجهل وموبقات الهوى آمين آمين.
وقولهم: إنه دفع إليه ما فضل من بيت المال افتراء واختلاق بل الصحيح أنه أمر بتفرقة المال على أصحابه ففضل في بيت المال ألف درهم فأمره بإنفاقها فيما يراه أصلح المسلمين، فأنفقها زيد على عمارة مسجد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعد ما زاد عثمان في المسجد زيادة كبيرة وكل واحد منهما مشكور محمود على فعله.
وإنا نقول: إن المحب الطبري بدأ دفاعه من هذه المسألة بقوله: إن أكثر ما ادَّعوه من إسرافه في بيت المال فأكثر ما نقلوه عنه مفترى عليه ومختلق، وما صحَّ عنه فعذره فيه واضح اهـ. ولم يقل: إن كل ما نقل مفترى عليه ومختلق. وكان عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ لا يدع شيئًا حتى يوزعه على المسلمين في الحال. وقد ذكرنا في كتاب "الفاروق عمر ابن الخطاب" أن أبا موسى الأشعري أهدى لامرأة عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ طنفسة [طنفسة: بساط] قدرها ذراع وشبر، فدخل عليها عمر فرآها فقال: أنَّى لك هذه؟ فقالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري. فأخذها، فضرب بها رأسها حتى نَغَضَ رأسها. ثم قال: عليَّ بأبي موسى الأشعري وأتعبوه. فأُتي به قد أتعب وهو يقول: "لا تعجل عليَّ أمير المؤمنين". فقال عمر: "ما يحملك على أن تهدي لنسائي"؟ ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه وقال: "خذها فلا حاجة لنا فيها". إن عمر رفض هذه الهدية البسيطة، وهي لا تساوي شيئًا اجتنابًا لكل شبهة حتى لا تسقط هيبته وتسوء سمعته، وقد قيل: من وضع نفسه مواضع التهم فلا يلومنَّ من أساء الظن به.
ونحن نودُّ أن يكون ما قيل عن عثمان من التصرف في مال بيت المال غير صحيح.
وقد كان عبد اللَّه بن الأرقم على بيت المال زمن عمر، ثم ولاَّه عثمان بيت المال وأجازه بثلاثين ألفًا فأبى أن يقبلها وقال: عملت للَّه وإنما أجري على اللَّه. وكان عمر يقول: ما رأيت أخشى للَّه تعالى من عبد اللَّه بن الأرقم. وجاء في أسد الغابة أنه استعفى عثمان من ذلك فأعفاه من غير أن يذكر السبب. على أن استعفاء عبد اللَّه بن الأرقم مع ما عرف عنه من أمانة، واستعفاء معيقيب أمر فيه نظر. فهل كان كلاهما لا يصلح لبيت المال لكبر سنه؟ [ص 207].
ومما أُخِذَ على عثمان أنه لما حمل إليه خمس غنائم أفريقية اشتراه مروان بن الحكم بمبلغ 500.000 دينار فوضعها عند عثمان بدلًا من أن يفرق الخمس على المسلمين جريًا على سنة صاحبيه في توزيع الغنائم.
وإنا نكتفي بهذا القدر ففيما ذكرناه الكفاية، ونكرر أننا نجلّ قدر عثمان وأنه ذهب ضحية أقاربه الذين تسلطوا عليه وكلفوه ما لا يطيق.
رأي الأستاذ المرحوم محمد الخضري بك ومناقشته
كتب الأستاذ محمد الخضري بك [محمد الخضري بك، إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء]:
"وكل ما نقموه عليه يعني على عثمان أمر لا حرج على الإمام فعلها، منها توليته أقاربه وليس في هذا أدنى عيب، لأن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ولَّى عليًا وهو ابن عمه. ولو كانت تولية القريب عيبًا لنهى عنها عليه السلام ولم يفعلها. ومع ذلك فالإسلام سوَّى بين الناس لا قريب عنده ولا بعيد. فالأمر موكول لرأي الإمام الذي ألقيت إليه مقاليد الأمة، فإن ولَّى من حاد عن الدين شكونا إليه، فإن لم يقبل صبرنا كما أمر بذلك رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، لأن شق عصا الجماعة من مصائب الأمم التي تسرع إليها الخراب وليس في الشرع ما يبيح خلع الإمام إلا كفره الصراح".
هذا هو رأي الأستاذ الخضري بك رحمه اللَّه في كتابه المشار إليه فهو ممن يبررون عمل عثمان ويرون أنه اتبع الشرع والسنة. وإنا نقول: إن تولية عثمان أقاربه أحدثت سخطًا عامًَّا، وأخذ السخط يتسع على مرِّ الأيام، وكان في وسعه تجنب ذلك، لكنه ـ رضي اللَّه عنه ـ كان يتوب ويعد بعزلهم، ثم لا يفعل شيئًا. إن عثمان إذًا كان يريد مساعدة أهله وأقاربه برًَّا بهم، فقد كان هناك وسائل غير توليتهم الأمصار الكبيرة التي يشترط فيمن يتولاها الكفاية وحسن السمعة ونقاء الماضي، وكان كثير من الصحابة كما قدمنا حائزين لهذه الصفات والمؤهلات، ومع ذلك ضرب عنهم صفحًا ولم يسند هذه المراكز وقد قيل: من الحكمة وضع الأشياء في مواضعها. فلما ولَّى أقاربه اعترض الناس بطبيعة الحال وامتعضوا ورموه بأنه لم يراع المصلحة العامة، بل راعى أقاربه وقدمهم في الوظائف الكبيرة على من هم أهل لذلك ممن يجلهم ويحترمهم الجمهور، وكان بين هؤلاء الأقارب المتهم في دينه وتقواه. ثم إنه عزل من سبق له الفضل في الفتح لإحلال القريب محله.
وإذا كان الإسلام سوَّى بين الناس لا قريب عنده ولا بعيد فكان الواجب إذن يقضي على الخليفة باختيار من يصلح لا إيثار القريب لقرابته بغض الطرف عن المصلحة العامة التي هي فوق كل مصلحة [ص 208].
نعم إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لم يَنه عن تولية القريب لكن على أن يكون هذا القريب شخصًا ممتازًا حكيمًا. وهذا ما فعله رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فإنه باعتراف جميع المؤرخين من عرب وعجم لم يخطئ في تولية أحد القيادة، أو الحكم، فكان عارفًا بأقدار الرجال. وكان عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ إذا تبين له أنه لم يوفق في تولية أحد وظهر فيما بعد ضعفه، أو عجزه، أو ارتكب أمرًا شائنًا عزله في الحال وولى غيره، كي تنتظم الأمور ويقام العدل وتهاب الرعية الوالي. لكن عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ بالرغم من سخط الناس من ولاته واعتراض كبار الصحابة المشهورين بأصالة الرأي وبعد النظر والتقوى ظل متمسكًا بهم إلى النهاية حتى قتل، ولم يعزل غير سعيد بن العاص بعد أن بلغت الفتنة أشدها في الكوفة.
كاتب الناس بعضهم بعضًا في الأمصار، وتبادلوا الرسائل التي تطعن على عثمان وعلى ولاة عثمان، وأخيرًا قامت الثورة، وكان جمهور المسلمين قسمين: ثائرًا يريد عزل الخليفة، فإن لم يعتزل يقتل، وقسمًا غير راضٍ عن سياسته، ويودُّ أن يعتزل حسمًا للنزاع وقمعًا للفتنة، لكنه التزم الحياد ولم يبق في صف عثمان غير أهله وأقاربه، حتى قيل: إن عبد الرحمن بن عوف وهو صهره ندم على اختياره خليفة، بل وزاد على ذلك أنه نقض بعض ما عمله عثمان. فقد جاء في الطبري أن إبلًا من إبل الصدقة جيء بها على عثمان فوهبها لبعض ولد الحكم ابن أبي العاص فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها وقسَّمها بين الناس وعثمان في داره. وعلى ذلك كان السواد الأعظم في ذلك إما ناقمًا عليه أو غير راضٍ عن خطئه، ولولا ذلك لوجد عثمان من يدافع عنه ويصدّ عنه غارة طائفة خرجت عليه، ولفدوه بأرواحهم بل لما نهض من كل مصر جيش يطالب بخلعه. نعم إن عبد اللَّه بن سبأ كان عاملًا قويًا في نشر الفتنة، لكن عبد اللَّه هذا لم يقدم على نشر دعايته الواسعة النطاق إلا لما علم أن الناس يستمعون له، وأن النفوس مستعدة لقبول كلامه. ولو تصوَّرنا أن عثمان لم يكن يعلم اتجاه الرأي العام ضده لكان معذورًا لكن حصره أربعين أو خمسين يومًا لا يؤيد ذلك، بل الثابت أنه أيقن أخيرًا بخطورة الحال لما طال الحصر وأحرقوا بابه وألقوا النار في منزله ومنعوا عنه الماء. إلا أن قتله كان جرمًا شنيعًا وخطبًا مريعًا، فإن القتلة قد استعجلوا القدر وكان قد بلغ سن الشيخوخة وضعفت قواه، وعلى كل حال لم يبرر أحد قتله، بل عدَّه عقلاء الأمة نكبة عليها وفاتحة للخلاف والانقسام.
وقال الخضري بك[محمد الخضري بك، تاريخ الأمم الإسلامية" ص 395]:
"فقد كانوا يعيبون معاوية، وهذا لم يوجده عثمان، بل ولاَّه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وولاَّه أبو بكر، وولاَّه عمر، ولم نرَ من العمال من استمر موثوقًا به من عمر في حياته كلها إلا أفرادًا قلائل منهم [ص 209] معاوية بن أبي سفيان، فقد كان واليًا من أول حياة عمر إلى آخرها، وكانت الشام أعدل ولايات المسلمين وأهدأها".
وإنا نجد الجواب على ذلك في ردِّ عليّ ـ رضي اللَّه عنه ـ حين قال له عثمان: "هل تعلم أن عمر ولَّى معاوية خلافته كلها؟. فقد وليته". فأجابه عليٌّ: "أنشدك اللَّه! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال عليٌّ: فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان فيبلغك، ولا تُغَيِّر على معاوية". فسكت ولم يجب.
فمعاوية ما كان يستطيع أن يقطع أمرًا وينسبه إلى الخليفة في زمن عمر، لأنه كان يخشاه، كما كان يخشى غلام عمر، لكنه في زمن عثمان كان يفعل ما يشاء لاطمئنانه إليه، فإن اعترض عليه معترض ادَّعى أن ذلك بأمر الخليفة، وكان عثمان إذا بلغه ذلك لم يؤاخذه. فالقول بأن معاوية ولاَّه عمر وأقرَّه طول حياته لا يبرر أعمال معاوية زمن عثمان. | |
|
| |
حامد حموده عميد أعضاء المنتدى
عدد المساهمات : 477 عضو نشيط : 59479 الرتبة : 5 28/06/1976 تاريخ التسجيل : 15/04/2009 48 الموقع : https://hamodaeltony.ahladalil.com/index.htm
| موضوع: رد: عثمان بن عفان الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:40 am | |
| ما رثي به عثمان من الأشعار
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 694، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 76.:
قال حسان بن ثابت [ديوان حسان بن ثابت ص 101] شاعر النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يمدح عثمان ويبكيه ويهجو قاتله:
أتركتمُ غزوَ الدروبِ وراءَكُمْ *** وغزوتُمُونَا عندَ قبرِ محمدٍ
فلبئسَ هَدْى المُسلمينَ هَديتُم *** ولبئسَ أمرُ الفاجرِ المُتعمِدِ
أَنْ تُقدِمُوا نَجعلْ قُرَى سِرَواتِكُم*** حَولَ المدينةِ كُلَّ ليَّن مَذُود
[ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 76: "كلٌ لَدْنٍ"]
أو تُدبروا فلبئسَ ما سَافَرتُم *** ولمثلِ أَمرِ أَميرِكُمْ لَم يَرَشُد
وكأنَّ أَصحابَ النَّبيِ عشيةً *** بُدُنٌ تذبّح عندِ بابِ المَسْجدِ
أَبكِي أَبَا عَمْروٍ لِحُسن بَلائِهِ *** أَمْسَى مُقِيمًا [ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 76: "أحسى ضحيعًا".
] فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ وقال [ديوان حسان بن ثابت ص 22]:
إن تمس دار ابن أروَى منه خاويةٌ ***
[ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 77: "اليوم خاوية"] باب صريعٌ وباب محرقٌ خرب [ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 196 197] [ص 210].
قد يصادف باغي الخير حاجَتَه *** فيها ويهوى إليها الذكر والحسب
يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم *** لا يستوي الصدق عند اللَّه والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا *** بغارة عُصُبٍ من خلفها عصبُ
فيهم خبيث شهاب الموت يقدمهم *** مستلئمًا قد بدا في وجهه الغضب
وقال أيضًا [ديوان حسان بن ثابت صفحة 409 410]:
من سرَّهُ الموتُ صَرْفًا لاَ مِزَاجَ لهُ *** فليأتِ مَأسَدَةً في دارِ عُثْمَانَا
مُسْتَشْعِرِي حلقٍ الماذيَّ قد شفعتْ *** قبلَ المَخَاطمِ بِيضٌ زَانَ أَبدانا
صبرًا فِدىَّ لكم أمي وما ولدت *** قد ينفع الصبرُ في المكروهِ أحيانا
فقد [ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 77: "لقد".]
لقد رضينا بأهل الشأم نافرة *** وبالأمير وبالإخوان إخوانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا *** ما دمت حيًَّا وما سميت حسانا
لتسمعُن وشيكا في ديارهم *** اللَّه أكبر يا ثارات عثمانا
يا ليت شعري وليت الطيرَ تخبرني *** ما كان شأن عليٍ وابن عفانا
وقال كعب بن مالك الأنصاري:
يا للرجال لِلُبّك المخطوف *** ولدمعك المترقرق المنزوف
ويح لأمر قد أتاني رائع *** هدَّ الجبال فانقضت برجوف
قتلُ الخليفة كان أمرًا مفظعًا *** قامت لذاك بليّة التخويف
قتل الإمام له النجوم خواضع *** والشمس بازغة له بكسوف
يا لهف نفسي إذ تولّوا غدوة *** بالنعش فوق عوائق وكتوف
ولوا وأدلوا في الضريح أخاهم *** ماذا أجنّ ضريحه المسقوف
من نائل أو سؤدد وحمالة *** سبقت له في الناس أو معروف
كم من يتيم كان يجبر عظمه *** أمسى بمنزله الضياعُ يطوف
ما زال يقبلهم ويرأب ظلمهم *** حتى سمعت برنة التلهيف
أمسى مقيمًا بالبقيع وأصبحوا *** متفرقين قد أجمعوا بخفوف
النار موعدهم بقتل إمامهم *** عثمان ظهرًا في التلاد عفيف
جمع الحمالة بعد حلم راجح *** والخير فيه مبيّن معروف [ص 211]
يا كعب لا تنفك تبكي مالكًا *** ما دمت حيًّا في البلاد تطوف
فأبكي أبا عمرو عتيقًا واصلًا *** ولواءهم إذ كان غيرَ سخيف
وليبكه عند الحفاظ معظِّم *** والخيل بين مقانبٍ وصفوف
قتلوك يا عثمان غير مدنس *** قتلا لعمرك واقفًا بسقيف
وقال أيضًا:
فكفَّ يديه ثم أغلق بابه *** وأيقن أن اللَّه ليس بغافل
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم *** عفا اللَّه عن كل امرئ لم يقتل
فكيف رأيت اللَّه صب عليهم الـ *** ـعداوة (العداوة) والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده *** عن الناس إدبار الرياح الحوافل
وقال الحباب بن يزيد المجاشعيّ عم الفرزدق:
لعمرُ أبيك فلا تجزعن *** لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد سفه الناس في دينهم *** وخلّى ابن عفان شرًّا طويلا
أعاذلَ كلُّ امرئ هالكٌ *** فسيروا إلى اللَّه سيرًا جميلا
وقال القاسم بن أمية بن أبي الصلت:
لعمري لبئس الذِّبح ضحيتم به *** وخنتم رسول اللَّه في قتل صاحبه
وقالت زينب بنت العوام:
وعطشتم عثمان في جوف داره *** شربتم كشرب الهيم شرب حميم
فكيف بنا أم كيف بالنوم بعد ما *** أصيب ابن أروى وابن أم حكيم
وقالت ليلى الأخيلية:
قتل ابن عفان الإمام *** وضاع أمر المسلمينا
وتشتتت سبل الرشا *** د لصادرين وواردينا
فانهض معاوي نهضة *** تشفي بها الداء الدفينا
وقال أيمن بن خزيمة:
ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ضحى *** وأي ذِبح حرام وَيحْهم ذبحوا
وأي سنة كفر سن أولهم *** وباب شر على سلطانهم فتحوا
ماذا أرادوا أضل اللَّه سعيهم *** بسفك ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا
وقال الوليد بن عقبة:
ألا مَن لليل لا تغور كواكبُهْ *** إذا لاح نجم لاح نجم يراقبَه
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم *** ولا تهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشم لا تعجلوا بإقادة *** سواء علينا قاتلوه وسالبه
فقد يجبر العظم الكسير وينبري *** لذي الحق يومًا حقه فيطالبه
وإنا وإياكم وما كان منكم *** كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه
بني هاشم كيف التعاقد بيننا *** وعند عليٍ سيفه وجرائبه
لعمرك ما أنسى ابن أروى وقتله *** وهل يَنسَيَن الماء ما عاش شاربه
همو قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه
وإني لمجتاب إليكم بجحفلٍ *** يصم السميعَ جرسُه وجلائبه
وقال الوليد يرثي عثمان ويحرض معاوية على الأخذ بثأره:
واللَّه ما هند بأمك إن مضى النهـ *** ـار (النهار) ولم يثأر بعثمان ثائر
أيقتلُ عبدُ القوم سيدَ أهله *** ولم يقتلوه ليت أمك عاقر
وإنا متى نقتلهم لا يقد بهم *** مقيد فقد دارت عليك الدوائر
وقال أيمن بن خُريم بن فاتك الأسدي وكان عثمانيًّا:
تعاقد الذابحو عثمان ضاحية *** فأيّ ذبح حرام ويحهم ذبحوا
ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ولم *** يخشوا على مطمح الكفر الذي طمحوا
خطبة ابنته عائشة بعد قتله
قالت بعد أن حمدت اللَّه وأثنت عليه:
يا ثارات عثمان إنا للَّه وإنا إليه راجعون. أفنيتْ نفسه. وطُل دمه في حرم رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ. ومنع من دفنه. اللَّهم ولو يشاء لامتنع ووجد من اللَّه عز وجل حاكمًا. ومن المسلمين ناصرًا. ومن المهاجرين شاهدًا. حتى يفيء إلى الحق من سدِر عنه أو تطيح هامات وتُفرى غلاصم. وتخاض دماء، ولكن استوحشَ مما أنستم به. واستوخم [ص 213] ما استمرأتموه. يا من استحل حرم اللَّه ورسوله واستباح حماه. لقد كره عثمان ما أقدمتم عليه. ولقد نقمتم عليه أقل مما أتيتم إليه. فراجع فلم تراجعوه. واستقال فلم تقيلوه.
رحمة اللَّه عليك يا أبتاه احتسبت نفسك. وصبرت لأمر ربك حتى لحقت به. وهؤلاء الآن قد ظهر منهم تراوض الباطل، وإذكاء الشنآن، وكوامن الأحقاد، وإدراك الإحن والأوتار. وبذلك وشيكًا كان كيدهم، وتبغيهم، وسعى بعضهم ببعض. فما أقالوا عائرًا. ولا استعتبوا مذنبًا، حتى اتخذوا ذلك سببًا إلى سفك الدماء. وإباحة الحمى. وجعلوا سبيلًا إلى البأساء والعنت. فهل أعلنت كلمتكم وظهرت حسكتكم إذ ابن الخطاب قائم على رؤوسكم. مائل في عرصاتكم يرعد ويبرق بإرعابكم. يقمعكم غير حذر من تراجعكم الأمانيّ بينكم وهلا نقمتم عليه عودًا وبدءًا، إذ ملك ويملّك عليكم من ليس منكم بالخلق اللين والجسم الفصيل. يسعى عليكم وينصب لكم. لا تنكرون ذلك منه خوفًا من سطوته وحذرًا من شدته. وأن يهتف مقسورًا أو يصرخ بكم معذورًا. إن قال صدقتم قالته. وإن سأل بذلتم سألته، يحكم في رقابكم وأموالكم كأنكم عجائز صلع وإماء قصع، فبدأ مفلتًا لابن أبي قحافة بإرث نبيكم على بعد رحمه، وضيق يده، وقلة عدده. فوقى اللَّه شرها، زعم للَّه درّه ما أعرفه ما صنع أو لم يخصم الأنصار بقيس، ثم حكم بالطاعة لمولى أبي حذافة، يتمايل بكم يمينًا وشمالًا. قد خطب عقولكم، واستمهر وجلكم، ممتحنًا لكم، ومعترفًا أخطاركم، وهل تسمو هممكم إلى منازعة. ولولا تيك لكان قسمه خسيسًا، وسميه تعيسًا. لكن بدأ بالرأي، وثنَّى بالقضاء، وثلث بالشورى، ثم غدا سامرًا مُسلطًا درته على عاتقه، فتطأطأتم له تطأطؤ الحِقة. ووليتموه أدباركم حتى علا أكتافكم. فلم يزل ينعق بكم في كل مرتع، ويشدد منكم على كل مخنقٍ، ويتورط بالحوباء. عرفتم أو نكرتم لا تألمون ولا تستنطقون. حتى إذا عاد الأمر فيكم، ولكم، وإليكم، في مونِقَةٍ من العيش عرقها وشيج، وفرعها عميم، وظلها ظليل. تتناولون من كثب ثمارها أنَّى شئتم رغدًا، وجلبت عليكم عشارُ الأرض دررًا، واستمرأتم أكلكم من فوقكم ومن تحت أرجلكم من خصب غدق وامق شرق. تنامون في الخفض، وتستلينون الدَّعة. ومقتَّم زبرجة الدنيا وحرجتها. واستحليتم غضارتها ونضرتها. وظننتم أن ذلك سيأتيكم من كثب عفوًا. ويتحلب عليكم رسلًا، فانتضيتم سيوفكم، وكسرتم جفونكم. وقد أبى اللَّه أن تُشام سيوف جُردت بغيًا وظلمًا، ونسبتم قول اللَّه عز وجل: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسُّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19، 21] فلا يهنئكم الظفر. ولا يستوطن بكم الظلم إلا على رجلين، ولا ترن القوس إلا على سيتين، فأثبتوا على الغرز أرجلكم، فقد ضللتم هداكم في المتيهة الخرقاء، كما أضل أدحية الحل. وسيعلم كيف تكون إذا كان الناس عباديد. وقد نازعتكم الرجال، واعترضت عليكم الأمور، وساورتكم الحروب بالليوث، وقارعتكم الأيام بالجيوش، وحمى عليكم الوطيس. فيومًا تدعون من لا يجيب ويومًا تجيبون من لا يدعو. وقد بسط باسطكم كلتا يديه يرى [ص 214] أنهما في سبيل اللَّه، فيد مقبوضة وأخرى مقصورة، والرؤوس تنزو عن الطلي والكواهل، كما ينقف التنوم. فما أبعد نصر اللَّه من الظالمين، وأستغفر اللَّه مع المستغفرين.
خطبة زوجته نائلة بنت الفرافصة
قالت بعد أن حمدت اللَّه وأثنت عليه:
عثمان ذو النورين قتل مظلومًا بينكم بعد الاعتذار وإن أعطاكم العتبى. معاشر المؤمنين وأهل الملِّة لا تستنكروا مقامي. ولا تستكثروا كلامي، فإني حرَّى عَبْرَى. رزئت جليلًا. وتذوقت ثكلًا من عثمان بن عفان. ثالث الأركان من أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في الفضل، عند تراجع الناس في الشورى يوم الإرشاد. فكان الطيِّب المرتضى المختار، حتى لم يتقدمه متقدم، ولم يشك في فضله متأثم. ألقوا إليه الأزّمة، وخلوه والأمة حين عرفوا له حقه، وحمدوا مذهبه وصدقه. فكان واحدهم غير مدافع وخيرتهم غير منازع. لا ينكر له حسن الغَناء ولا عنه سماح النعماء. إذ وصل أجنحة المسلمين حين نهضوا إلى رؤوس أئمة الكفر حيث ركضوا فقلَّدوه الأمور. إذ لم يكن فيهم له نظير، فسلك بهم سبيل الهدى. وبالنبي وصاحبيه اقتدى. مخسئًا للشيطان إلى مداحره. مقصيًا للعدوان إلى مزاجره. تنقشع منه الطواغيت، وتزايل عنه المصاليت. حتى امتدَّ له الدين. واتصل له السبيل المستقيم. ولحق الكفر بالأطراف، قليل الآلاف والأحلاف. فتركه حين لا خير في الإسلام في افتتاح البلاد. ولا رأي لأهله في تجهيز البعوث. فأقام يمدَّكم بالرأي. ويمنعكم بالأدنى. يصفح عن مسيئكم في إساءته. ويقبل من محسنكم بإحسانه. ويكافئكم بماله. ضعيف الانتصار منكم. قوي المعونة لكم. فاستلنتم عريكته حين منحكم محبته، وأجرركم أرسانكم. آمنًا جرأتكم وعدوانكم. فأراكموه الحق إخوانًا. وأراكموه الباطل شيطانًا في عقب سيرة من رأيتموه فظًا. وعددتموه غليظًا. فهدكم منه بالقمع. وطاعتكم إياه على الجدع. يعاملكم الحسبة. ويتخونكم بالضر. وكان اللَّه أعلم بآدابكم ومصالحكم. فللَّه هو كان قد نظر في ضمائركم، وعرف إعلانكم وسرائركم. فحين فقدكم سطوته وأمنتم بطشه، رأيتم أن الطرق قد انشعبت لكم. والسبل قد اتصلت بكم. ظننتم أن اللَّه يصلح عمل المفسدين. فعدوتم عدوة الأعداء. وشددتم شدة السفهاء على التقي النقي، الخفيف بكتاب اللَّه عز وجل لسانًا. الثقيل عند اللَّه ميزانًا. فسفكتم دمه. وانتهكتم حرمه. واستحللتم منه الحُرَم الأربع: حرمة الإسلام، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام. فليعلمنَّ الذين سعوا في أمره، ودبوا في قتله، ومنعونا من دفنه. اللَّهم إنه بئس للظالمين بدلًا، وأنهم شر مكانًا، وأضعف جندًا. لتتعبدنكم الشبهات. ولتفرقن بكم الطرقات. ولتفرقن بكم الطرقات، ولتذكرن بعدها عثمان. ولا عثمان. وكيف [ص 215] يسخط اللَّه من بعده. وأين كنتم لعثمان ذي النورين منفس الكرب. زوج ابنتي رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وصاحب المربد ورومة. هيهات واللَّه ما مثله بموجود. ولا مثل فعله بمعدود. يا هؤلاء إنكم في فتنة عمياء، صمّاء، طباق السماء. ممتدة الجران. شوهاء العيان في كثير من الأمر. قد توزع كل ذي حق حقه. ويئس من كل خير خيرُ أهله. فلهوات الشر فاغرة، وأنياب السوء كاشرة، وعيون الباطل خزْر، وأهلوه شزر، ولئن نكرتم أمر عثمان، وبشعتم الدَّعة لتنكرن غير ذلك من غيره، حين لا ينفعكم عتاب، ولا يسمع منكم استعتاب.
انتهى الكتاب والحمد لله أولًا وآخرًا. | |
|
| |
| عثمان بن عفان | |
|